الفاتيكان، 12 مارس 2007 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي مقالاً عن موقع الإخوة الدومنيكان من إقليم فرنسا والعالم العربي تعرّف بشكل موسع بمجلة الفكر المسيحي التي حازت على الجائزة العالمية للصحافة الكاثوليكية.
* * *
“طيلة عقود، خلـّفت مجلة الفكر المسيحي وراءها عدّة مئات من الصفحات والموضوعات والقضايا والأخبار، ناشرة (الفكر المسيحي) صحافيًا، فسدّت بذلك فراغًا كبيرًا حاصلا في كنيسة العراق، بصفتها، خلال ربع قرن من الزمن، المجلة المسيحية الدينية الوحيدة في العراق، والتي تطوّرت من سلسلة صغيرة (للسنوات 1964 وهي سنة تأسيسها وحتى سنة 1970) إلى مجلة إعلامية ثقافية شهرية، منذ عام 1971، حتّى اتخذت منذ عام 1977 نهجًا إعلاميًا، تغذّيه أبوابٌ ثابتة وأعدادٌ سنويّة خاصة”.
هذه كانت كلمات التقييم عن مجلة الفكر المسيحي ، جاءت في عددها الفضّي (رقم 240 / تشرين الثاني 1989) ليوبيل الربع قرن من عمرها، كتبها العَلامة الراحل الأب الدكتور يوسف حبي، إذ وصف هذه المجلة، التي يعدّها العارفون أقدم دورية عراقية متواصلة الصدور، والتي أسستها جماعة (كهنة يسوع الملك) في الموصل سنة 1964، وتُصدرها، منذ 1995، رهبانية الآباء الدومنيكان في العراق، وهي التي منذ 1995 ضمّت إلى هيئة تحريرها، للعمل بمعيّة الآباء، عَلمانيّاً يشغل فيها، للمرّة الأولى في تاريخ كنيسة العراق، مَنصِبَ نائب رئيس التحرير.
مجلـّة تداولتها الأجيال
وهكذا، يرجع أمس هذه المجلة، من جهة العمر، إلى بداياتها مع أول عدد صادر في مطلع الستينيات، ظهر على شكل دراسات دوريّة، على أيدي بضعة قسس شبّان، تخرجوا لتوّهم في “معهد مار يوحنا الحبيب” الكهنوتي للآباء الدومنيكان في الموصل، إذ كانوا بأعمار تتراوح بين 23 و24 سنة. فحَمَلوا رايتـَها طوال ثلاثة عقود، ثم قرّروا حِرصا على استمرارها، تسليمها في عام 1994، إلى جهة رهبانيّة تمَثـّلَ بكيانها طابع ديمومة، من خلال تواصل أجيالها الرهبانية. فتسلـّمها من كانوا لردح من الزمن تلامذة للرواد المؤسّسين، في معهد الدومنيكان، وهم الجيل الحإلى من الآباء الدومنيكان وحتى العلماني معهم، هو أيضًا تلميذ سابق في المعهد المذكور.
ومع الوقت تبيّن ما اتّسم به قرار التسليم هذا من جُرأة وسلامة وتجرّد. ففي شهر كانون الأول سنة 1999، تُوفّي أحد الرواد الثلاثة، الأب نعمان أوريده، بمرض خبيث فاجأه وهو في عنفوان العطاء. وفي الشهر عينه، أنتُخِب زميله، نائب رئيس التحرير، الأب جرجس القس موسى ليشغل رتبة كنسيّة أعلى – رئيسًا لأساقفة الموصل وتوابعها على السريان الكاثوليك – فطلبت المجلة من سيادته أن يكون صاحب امتيازها، إثر وفاة سلفه المطران الراحل، عمانوئيل بُنّي، في حين تفرّغ ثالث الروّاد الأب بيوس (زهير) عفّاص، رئيس التحرير السابق، إلى إدارة مركز الدراسات الكتابيّة في الموصل، وهو الوحيد من نوعه في العراق الذي يقوم بالتنشئة في مجال الدراسات البيبلية الكتابيّة، إضافة إلى النشر في هذا الحقل.
وكان في تسليمها إلى الهيئة الجديدة جانب معنوي يُقارَن بخطبة فتاة، مَهْرها عهد وفاء لمواصلة المسيرة، وشاهِدها القرّاء ووكلاء التوزيع. ومع شاعرية المقارنة، يكتنفها بالطبع، تجاه الصِهْر، مشاعر أهل العروس في الإعتزاز بفتاتهم، وألم فراقها ومغادرتها إلى بيت آخر.
على أن الفريق الجديد، إذ تَسَلـَّم المجلة، في عمر أكبر من عمر مؤسسيها، قد بقي لديه هذا الإعجاب بأولئك الشباب الذين استطاعوا أن يُظهروا في ذلك العمر مطبوعًا متكاملا، فيما لبث أعضاء الفريق الثاني، تُحاصِره غُصّة من همزة، أو حَيرة بين الضاد والظاء، إلى جانب التعامل مع محاذير أنواع الرقابات في العقد الأخير.
وكان انتقال الفكر المسيحي إلى هيئة تحرير جديدة في بغداد متزامنًا مع ما شَهِدته العاصمة من إمكانات حاسوبية وإخراجية وطباعية، في قفزات متسارعة متتالية. فقُدِّر للمجلة أن تتكحّل وتتسربل منذ عدد 301 /1995 بِحُلـّة زاهية الألوان، ولأربع صفحات الغلاف وبنسق ثابت. زاد رونقَها التصميم الجديد لاسمها، وهو بريشة الفنّان المصمّم، الذي رافق جُلَّ سنواتها، الأستاذ ماهر حربي، وهو في طليعة الفنانين العراقيين التشكيليين.
ومن حيث المضمون إستقرّت المجلة على عدد من الأبواب. فإلى جانب الإفتتاحية والأنباء، وملف العدد، تضمّ أبوابُها الثابتة: أضواء على الأحداث، سؤال العدد، ركن الأسرة، قرية أو مزار بين الماضي والحاضر، ألوان من الحياة، قضايا صغيرة، دراسات “بيبلية” عن الكتاب المقدس، واحة الفن، مع إطلالة متميّزة مدروسة للصفحة الأخيرة. كما تتناوب أبوابها المتحركة مواضيع مثل: حوار، منبر، تحقيق، روحانيات، الكنيسة، الحركة المسكونية، وثائق، تراجم وأعلام، تربية، تاريخ، سياسة وفنون وآداب.
وقد دأبت المجلة على استخدام لغة إعلامية معاصرة وفي متناول قراء من مجتمع متعدّد الأديان والثقافات، لتقدّم تفاعل المسيحية مع عالم اليوم وحياة الكنيسة في العراق والعالم، بنظرة منفتحة على التعايش المشترك بين مختلف الطوائف والمذاهب والقوميّات.
وكان الهاجس، المجبول بالشمولية والإستقلالية والتخصّص الفكري، هو الذي بقي مهماز تفرّدها، ومؤشّر حصانتها، التي جعلت المقالات، تخرج من قلم التحرير إلى القارئ عبر المطبعة مباشرة، في أحلك مراحل هيمنة النظم الشموليّة، بدون أن يعني ذلك إبتعادها عن اللون والطعم والرائحة، لكن ببقائها على الموقف الواضح الصريح، مهما تطلـّب الأمر من حذر أو
مجازفة.
الخط الإعلامي والإختيار المبدئي
وبقيت الفكر المسيحي تسعى، مع تطلـّعات قرّائها وروّادها ووكلائها، إلى جِدّة الأفكار والطروحات والجرأة والمواكبة لحاجات الكنيسة، بحيث لا تكون ميزة قلم واحد، وإنما تحاول أن تخلق مناخًا تتحرك فيه الرياح، فيتنقّى الهواء الذي يستنشقه القرّاء، فالموضوع إذن موضوع (خط) أو (اختيار مبدئي)، تسهر عليه هيئة التحرير كفريق عمل، ويظهر ذلك على أرض الواقع، في انتقاء الأخبار وفي أسلوب تقديمها وتحليلها؛ وكذلك في اختيار مواضيع المَلَف، وكيفية تقديمها وربطها الضمني بواقعنا؛ في تنويع الأقلام ومراعاة حجم حضور أصحابها في حياة الكنيسة، داخل البلد وخارجه؛ كما تسعى إلى خلق جوّ حوار مع القراء عِبر طاولات مستديرة أو استبيانات واستطلاعات في مسائل تخصّ اهتمامات الكنيسة والمجتمع؛ وفي طَرْق أبواب أو مواضيع تمسّ جهودَ كنيستنا نحو التجدد والإرتقاء إلى ما وراء المكتسَب، فاستعدّت لعبور العَتَبة إلى الألفيّة الثالثة، تحمل إلى جمهورها، خميرة التجديد الكنسي، الذي أطلقه المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، ولم تهمل خبرات الكنائس في أنحاء العالم. ولم تجد الفكر المسيحي ضَيرًا في أن يكون الطـَرْقُ “أكثر من نَقرة على باب نعسان!”، مع ما لكل فريق، في هذه الهيئة أو سابقتها تلك، من خصوصيّته المتميّزة في التعبير والكتابة والعرض!
أما الأُمنية الأخرى التي تمنّاها صاحب الإمتياز، سيادة المطران جرجس القس موسي، من إخوته الدومنيكان ومعاونيهم، من هيئة تحرير وكتّاب وإداريين ومُنَفّذين، بعد تسلـّمهم الشعلة من إخوتهم (كهنة يسوع الملك)، فهي ما وصفه بأمنية الجميع في أن تبقى الفكر المسيحي منارة ثقافيّة وقاعدة إعلامية مسيحيّة متميّـزة ورائدة فـي كنيسة العراق، و(مدرسة) لقرّائها.
خاتمة
وبعد، إنَّ جُلّ ما تودّ تقديمه مجلة الفكر المسيحي عن نفسها هو أن تكون مِنبرًا ثقافيًا منفتحًا متسامحًا رصينًا وملتزِما إزاء التعددية الفكرية، وأن تكون مجلة لكل العراقيين وليس لجهة أو لتيّار معيّن، وليس واجهة لهذه الشريحة أو تلك من المجتمع، بل تصير جسرًا بين الناس نحو الفكر والنقد والأصالة والتجذّر وأن تكون أيضًا مجلة للمسيحيين وليس مجلة لكنيسة محدّدَة.
عن موقع الإخوة الدومنيكان، إقليم فرنسا والعالم العربي: