روما، الأربعاء 7 ديسمبر 2011 (Zenit.org). – إنّ أحداث شرقنا العربيّ تجبرنا، نحن المسيحيّين، على أن نلحّ في عيد الميلاد هذه السنة على الذكرى لا على الاحتفال. فالاحتفال يُقام لأمرٍ تمّ وانتهى. إنّه نهاية سعيدة لمسار معيّن. أمّا الذكرى، فهي تذكّر الماضي، وتجعلنا نراجع الحاضر في ضوء هذا الماضي، ونخطّط للمستقبل بموجب هذه المراجعة. والحال، كيف نحتفل بالتجسّد الإلهيّ ونبتهج ونفرح ونردّد الإعلان الإلهيّ: «وعلى الأرض السلام»، وأرضنا ترتوي يوميّاً بدماء القتلى من أبناء الوطن الواحد؟ ما الّذي تكشفه لنا هذه الذكرى عن واقعنا الأليم؟
الميلاد ذكرى حدثٍ فريدٍ في تاريخ البشر. إنّه ذكرى لقاءٍ تمّ أخيراً بين جماعتين: جماعة الله الثالوثيّة وجماعة البشر. كانت هاتان الجماعتان تعيشان معاً في سلامٍ ووئامٍ في الفردوس. لكنّ الخطيئة خلقت الشقاق بينهما. وبسبب الخطيئة لم تعد الجماعتان تعيشان معاً بل تتعايشان. ويخبرنا العهد القديم عن حال هذا التعايش. فقد مرّت عليه أيّام سلامٍ هشٍّ ومتوجّسٍ، وأيّام توتّرٍ وأزمةٍ وخصامٍ وعنفٍ.
ولكي ينهي الله هذه الحالة المأساويّة، قرّر بمحبّته اللامتناهية أن يغيّر نمط العيش بين الجماعتين الإلهيّة والبشريّة، وأن يحوّلها من التعايش إلى العيش المشترك، أي من التوازي في الوجود إلى الشراكة. فالابن تجسّد ليعيش معنا لا ليعيش بيننا فقط. في ميلاد هذه السنة، يريد الله أن نتذكّر ذلك المشروع الإلهيّ. إنّه يريد أن تكفّ الجماعات المختلفة عن التعايش، عن العيش بالتوازي، الواحدة إزاء الأخرى، وأن تنتقل إلى العيش المشترك، لأنّها لم تحصد من التعايش إلاّ العنف والخراب، في حين أنّ النعمة الإلهيّة تستطيع أن تحقّق من خلال العيش المشترك العدالة والسلام. الله يريد من الجماعات المختلفة دينيّاً أو عرقيّاً أو إثنيّاً أن تعيش معاً لا أن تتعايش. إنّه يريدها أن تتفاهم وتتوافق من دون أن تلغي أيٍّ منها خصوصيّتها أو خصوصيّة الآخر. إنّه لا يريدها واحدة بل متّحدة. فالتوحيد يلغي الآخر ويرفض حقّه في الاختلاف، فيؤول الأمر إلى نتيجةٍ شبيهة بالتعايش، شبيهة بما نعيشه في هذه الأيّام. أمّا العيش المشترك، فيحترم الآخر في خصوصيّته، ويبني معه مشروعاً يعود بالخير على الجميع.
حين نجعل ميلاد هذه السنة ذكرى، نسأل أنفسنا: ألم نفضّل التعايش على العيش المشترك؟ ألم نتحصّن في قواقعنا وعشنا الجماعة إزاء الأخرى: الغنيّ إزاء الفقير، ابن المدينة إزاء ابن الريف، المسيحيّ إزاء المسلم؟ إنّ العنف الّذي نشهده هو شاهد على التعايش. لقد كذبنا على أنفسنا سنواتٍ طويلة: وحدة وطنيّة، تسامح، إخاء … شعارات نبيلة ردّدناها علناّ من دون أن نؤمن بها ضمناً، بل تبنّينا في داخلنا نقيضها تماماً. فالعنف الّذي يجتاح بلداننا لم يولد من العدم. إنّه نتيجة طبيعيّة لاختيار طريقة عيشٍ اخترناها بملء حرّيّتنا، وجعلناها تنمو في الظلام، وغطّيناها بالكذب والنفاق، ونحن نجني اليوم ثمارها.
الميلاد يدعونا إلى أن نعيد حساباتنا، ونعيد النظر في اختياراتنا العميقة. هل علينا أن نتابع التعايش، أم إنّ خبرة الحاضر تدعونا إلى السعي من أجل العيش المشترك بصدقٍ وأمانة؟ أمّا الله، فقد اختار العيش المشترك مع الجماعة البشريّة، على الرغم من ضعفها وخيانتها وانحطاط مستواها ورفضها له، لأنّ الله محبّة، والمحبّة تقتضي حبّ الآخر لأنّه آخر، مهما كان انتماؤه الطائفيّ أو الاجتماعيّ أو الثقافيّ، ومهما كان سلوكه. الميلاد ليس ذكرى لاختيار الله هذا وحسب، بل تذكير به: «اليوم، إذا سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم» (مز 95: 7-8).