–
"قام عن العشاء، وغسل أرجل التلاميذ، وترك لنا قدوة"
بكركي، الخميس 5 أبريل 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي في معرض الاحتفال بالقداس الإلهي ورتبة الغسل في يوم خميس الأسرار، وذلك في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي.
* * *
1. في مثل هذا اليوم وهذه الساعة، من ألفَي سنة، أقام الربُّ يسوع عشاء الفصح الأخير مع رسله ليلةَ آلامه وصلبِه، وحوَّله بفيضٍ من حبّه حتى النهاية إلى فصحه الشخصي، أعني إلى تقدمة ذاته الطوعية للآب من أجل خلاص البشر، بقبول الموت على الصليب لفداء الجنس البشري، وهِبة جسدِه ودمِه، غذاء الحياة الجديدة للمؤمنين به. فأسَّس سِرَّ القربان لهذه الغاية، قائلاً: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي الذي يُبذل من أجلكم! خذوا اشربوا، هذا هو دمي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجلكم ومن أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا”. وأنشأ في الوقت ذاته سرِّ الكهنوت، ومنحه لرسله قائلاً: “إصنعوا هذا لذكري”[1].
قبل ذلك، “قام عن العشاء، وغسل أرجُل التلاميذ”، كعلامةٍ لتنقية نفوسهم وقلوبهم بنعمة محبته، ولجعلهم أهلاً لقبول خدمة الكهنوت، وللجلوس إلى مائدة جسده ودمه. وأكَّد أنَّ هذه التنقية شرطٌ أساسيّ لنيل نعمة الخلاص، على ما قال لبطرس: “إذا لم أغسلك فليس لك نصيبٌ معي”[2]. وحدها نعمة الخلاص المتفجِّرة من موت المسيح وقيامته، والمنقولة للبشرية بأسرار الخلاص السبعة، المعروفة بأسرار الكنيسة، تُنقّي الإنسان من الداخل وتهبُه الحياة الجديدة. هذه الأسرار تنبع كلُّها من سرّ القربان، وتتمُّ بواسطة خدمة الكهنوت. ولهذا السبب يُسمّى هذا الخميس “خميس الأسرار” ويُصمد القربان في جميع الكنائس طيلة الليل لعبادة المؤمنين ويزور هؤلاء سبع كنائس إحياء لهذه الذكرى.
2. يسعدنا أن نحتفل معكم بعشاء الرب هذا، ونحن نُدرك أنّه عشاؤه إياه الذي أقامه شخصياً في علية أورشليم. وهو نفسُه يُقيمه الآن وهنا بواسطة خدمتنا الكهنوتية. هذه الليتورجيّا الإلهية هي عملُ الله وعملُ الكنيسة. المسيحُ نفسُه، الكاهنُ الأزلي، بفيضٍ من محبة الآب وبحلول الروح القدس وفعله، يُقيمها وهو في آن الكاهن والذبيحة والخبزُ النازل من السماء، وتُقيمها الكنيسة بواسطة الخدمة الكهنوتية. فنقول: يُقيم هذه الليتورجيّا الإلهية المسيحُ الكلّي أي المسيحُ الرأس وسائرُ الأعضاء المُشاركين في كهنوته من خلال سرّ الدرجة المقدسة، الأسقفية والكهنوت، ومن خلال سرّ المعمودية والميرون – وهو الكهنوت العام. إنها ليتورجيّا تتذكَّر موتَ المسيح وقيامتَه لفداء الجنس البشري وتبريره، وتجعلُ سرَّه الفصحيّ حاضراً الآن وهنا، وتنتظر تجلّيات الله في حياة الكنيسة، ومجيء الرب الثاني بالمجد[3].
3. ويسعدنا أيضاً أن يمثِّل تلاميذَ الرب الاثني عشر، شبابٌ وراشدون من لبنان ومن أبرشيتنا المارونية في قبرص. إنّهم يُعبِّرون عن معاناة حَمْلِ صليب الفداء، باسم اللبنانيين الذين ما زالوا منذ سنة 1975 يحملون أوزارَ الحرب بكلِّ ألوانها القتالية والاقتصادية والسياسية. كما يُعبِّرون عن معاناة حمل صليب الفداء، باسم الموارنة مواطني جزيرة قبرص، الذين هم أيضاً ما زالوا يحملون، منذ سنة 1974، أوزار تهجيرهم من قراهم الأربع في القطاع الشمالي التركي، وهي:
Aya Marina, Assomatos, Karpasha, Kurmajitis
إننا نُحيّي سيادة راعي الأبرشية المحتفل معنا المطران يوسف سويف وسيادة راعيها السابق المطران بطرس الجميل، وكل أبناء الأبرشية وكهنتها ورهبانها وراهباتها. وما زلنا نتذكَّر زيارتنا الراعوية لأبرشية قبرص في شهر شباط الماضي، وللقرى المهجّرة حيث التقينا كل أبنائها وبناتها المتواجدين في مختلف أنحاء الجزيرة. ومعلوم أنَّ الموارنة يعيشون في الجزيرة منذ ألف ومايتي سنة، وقد طبعوا مجتمعها بثقافتهم وروحانيتهم وتقاليدهم، وهم فيها عنصر وحدة وسلام.
إنّي أقول لكم يا ممثّلي التلاميذ الإثني عشر، إنَّ تمثيلَكم هذا ليس من الصدفة أو مجرّد تمثيل خارجي. بل هو لكم نعمةٌ خاصّة، أرجو أن تطبعَ حياتَكم، وتعرفوا أنْ تعيشوا دعوتكم المسيحية في الحياة، وتغذّوها من سرّ جسد المسيح ودمِه، وتنيروها بكلام الإنجيل وتعليم كهنة الكنيسة ورعاتها.
4. غسَلَ الربُّ يسوع أرجلَ التلاميذ، قبلَ تأسيس سرِّ الكهنوت، وكان معهم تلميذُه يهوذا الإسخريوطي المزمع أن يسلمه. وكأنّي بالربّ يسوع يقوم بآخر محاولة حبّ لردعه عن نية الخيانة، التي كانت تعتمرُ قلبه بدافع من الحسد والغَيرة والإغراءات المالية من الحاقدين. وكان يُريد أن يجعلَه أهلاً لتناولِ جسده ودمه وقَبول نعمة الكهنوت. غسلَ رجلَي يهوذا، هذا لم يعتبر، ولم يتنقَّ في داخله. وقد أشار يسوع إليه في حواره مع بطرس: “أنتم أطهار، ولكن لا كلّكم”[4]. وأضاف: “أنا أعرف الذين اخترتُهم، ولكن ليتمّ الكتاب: “إنّ الذي يأكل الخبز معي، رفع عليَّ عقِبَه”[5]. وعاد فنبّه: “ألحقّ الحقّ أقول لكم: إنّ واحداً منكم يسلمني”[6]. ثمّ ناولَه لُقمةً، وعندها داخله الشيطان، فقال له يسوع: إفعل عاجلاً ما أنت فاعل”. أمّا يهوذا فأخذ اللُّقمة ولساعته خرج وكان ليل[7] الظلمة.
الربُّ يُمهل ولا يُهمل. إنّه يحاول بشتّى الطرق أن يردعَ الإنسان عن شرّه. ينبّهه بصوت الضمير، صوتِ الله في أعماقه، كما ينبّهه بكلام الإنجيل والكتب المقدسة وبمثل الصالحين، وبمشورة المخلصين وبأحداث الحياة اليومية.
5.عندما أنهى يسوعُ غسلَ أرجل التلاميذ قال: “إن كنتُ أنا ربُّكم ومعلِّمكم قد غسلتُ أرجلَكم، فكم عليكم أنتم، أن يغسِلَ بعضُكم أرجل بعض. لقد أعطيتُكم بهذا قدوةً، فكما صنعت لكم، تصنع
ون أنتم أيضاً”[8].
هذه القدوة هي النهجُ المسيحيُّ ليتقيَّد به جميعُ المسيحيين بحكم المعمودية والميرون، وقد أصبحوا شركاءَ في كهنوت المسيح العام. وهي النهج الأسقفي والكهنوتي، ليتقيَّد به الأساقفة والكهنة، بحكم الدرجة المقدّسة التي أشركتهم في كهنوت المسيح بأبعاده النبوية والكهنوتية والملوكية. إنّه نهجُ الخدمة بكلّ تواضع وتجرّد، من دونِ تمييزٍ بالوجوه. نهجُ العطاء من دون حساب، نهجُ التفاني والإخلاص وتوفير الخير العام والخاص.
أجل، قدوتُنا يسوع المسيح الذي قال عن نفسه: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”[9]. بدونه ضياعٌ وضلالٌ وموت. فيا ربّنا يسوع أنرنا بشخصك وأعمالك وكلامك. لك المجد ولأبيك وروحك القدوس إلى الأبد، آمين.