* * *
كيف تجري حياة الجماعة الكاثوليكيّة في تركيا؟
جئتُ إلى هنا قبل أكثر من أربعين سنة، وأنا أسقف منذ عشرين سنة. لقد تغيّر الوضع كثيرًا وتطوّر بشكلٍ إيجابيّ على ما يبدو لي، رغم أنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ الامور تجري في الاتّجاه الذي نودّه. علينا بالصبر، ولكن لا تخلو الإشارات الإيجابيّة. على سبيل المثال، دُعينا قبل بضعة أيّام كأساقفة كاثوليك للمشاركة في المشاورات من أجل الدستور الجديد. شخصيًّا لا آمالَ لي في هذا المجال، لكنّ البادرة بحدّ ذاتها معبِّرة جدًّا، فهذه الدعوة تعني أنّهم يأخذون وجودنا بعين الاعتبار، وهو ما نُطالب به منذ زمن. لقد دعوا في البداية البطريرك الأرثوذكسيّ والبطريرك الأرمنيّ، في حين تجاهلونا نحن الكاثوليك. ثمّ لحظ سفير تركيا لدى الكرسيّ الرسوليّ الوضع الشاذّ وطالب باستشارتنا نحن أيضًا. وهكذا كان، فقد استُقبلنا بمودّة كبيرة واستطعنا أن نعرض وضعنا. تكمن المشكلة هنا في تركيا على وجه الخصوص في مسألة أملاك الكنائس، وليس في العلاقات مع السكّان المحليّين، وهي علاقات جيّدة. ترتدي صعوباتنا طابعًا قانونيًّا في الأساس: ما نطالب به منذ عقود هو الاعتراف بالوضع القانونيّ للكنيسة الكاثوليكيّة في تركيا. لأنّه لا وجود لنا ههنا من الناحية القانونيّة. بالطبع، يجب علينا أن نعترف بأنّ الوضع هو هو في العديد من البلدان الأخرى أيضًا. لقد أجابونا، بالنسبة لمطالبنا المتكرّرة، بأنّه سيجري تقييم لما يمكن فعله وما يمكن أن تغييره، لكنّ هذه المشكلة لا تُحلّ على مستوى إعادة كتابة الدستور.
سنرى كيف ستتطوّر المسألة، ولكن لا يمكننا بالتأكيد إنكار أنّ هذه الدعوة الموجّهة إلينا كانت ايجابيّة جدًّا. أنا فرنسيّ وألاحظ الكثير من أوجه الشبه بين دستور تركيا ودستور فرنسا: فهذه الأخيرة أيضًا لا تعترف بالشخصيّة القانونيّة للكنيسة الكاثوليكيّة، التي انتظمت لهذا السبب على شكل جمعيّة. ممّا يسمح لها بالقيام بأعمال قانونيّة مختلفة، مثل الشراء والبيع والاستئجار… ما يطلبه الكاثوليك في تركيا ليست امتيازات، وهذا ما أريد أن أؤكِّد عليه بوضوح، بل حقوق متساوية مع حقوق المواطنين الآخرين.
إنّ التغيير الذي حدث ويحدث بمعنى ما لمصلحة المسيحيّين أيضًا، قد أطلقه، للمفارقة، حزبٌ ذو مرجعيّة إسلاميّة واضحة. ما رأيكم؟
هذا صحيح بمعنى ما، لكنّ حزب العدالة والتنمية، حزب أردوغان، ليس حزبًا “إسلاميًّا”. تستخدم وسائل الإعلام هذا التعبير للتبسيط. لقد فاز بالتأكيد أردوغان ورفاقه عن طريق اللعب على وتر القناعات والهويّة الإسلاميّة للشعب التركيّ. ولكن يمكن فهم هذه الظاهرة على نحو أفضل، باعتبار ما حدث في فرنسا بعد الحرب العالميّة الأولى على سبيل المثال. لقد تحمّلنا نحن الكاثوليك الكثير من الضغوط، وكان علينا أن نعيش كما لو لم نكن موجودين. لقد حدث الشيء نفسه للمسلمين في تركيا، من بعض النواحي. لقد ركّز أردوغان عليهم، على الأتراك المسلمين والفخورين بكونهم كذلك، واستخدم تمسّكهم بالتقاليد وفاز في الانتخابات. هل هذا يعني أنّه إسلاميّ؟ لا، هذا يعني إدراك أنّ المؤمنين أيضًا كان لهم الحقّ في التعبير عن أنفسهم والتعاطف بالتالي مع هذا الحقّ..
ما رأيكم في حزب أردوغان؟
أستطيع أن أقول أنّ حزب العدالة والتنمية ليس متجانسًا في داخله، فهناك جناح يمينيّ وجناح يساريّ وجناح وسط. ويتعيّن على القادة السياسيّين في كلّ مكان التعامل مع تيّارات مختلفة. في الحالة التركيّة يجب أن نعترف بأنّ أردوغان سياسيّ مخضرم، يعرف كيف يجمع الميول المختلفة.
هل سنحت لكم فرصة التعرّف إليه شخصيًّا؟
لقد التقيتُه مرّات قليلة عندما كان رئيسًا لبلديّة إسطنبول. كانت العلاقات ودّية دومًا. ولكن اعتقد أنّه إذا كان قد فاز في الانتخابات، فهذا يعود إلى أنّه بدا أفضل من غيره، فهو يعرف كيف يتحدّث بشكل مباشر وبكلّ بساطة إلى الشعب. لا حاجة للأشياء المبهمة الكبيرة والخطابات الصعبة للفوز في الانتخابات. الديمقراطيّة هي هذا: أن يختار الشعب الأشخاص الذين يودّ أن يحكموه. المسألة هي أنّ هناك حاجة إلى معارضة جيّدة التنظيم، وهذا غير موجود للأسف. وتركيا ليست استثناءً للقوانين العالميّة حول اللعبة الديمقراطيّة.
هل تعتقدون أنّ تركيا دولة ديمقراطيّة حقًّا؟
وإن كانت ممارسة الديمقراطيّة غير راسخة جدًّا، إلا أنّه ينبغي الإشارة إلى أنّه جرت في السنوات الأخيرة انتخابات نظاميّة. الشعب يصوِّت ويمكننا الإجابة بنعم إنّ تركيا بلد ديمقراطيّ.
هل استطعتم على مدى السنوات الأربعين التي قضيتموها في تركيا تبيان تصاعد التطرّف الديني؟
يمكننا اليوم، في ظلّ هذه الحكومة التي خفّفت من صرامة علمانيّة الدولة والقوانين المستوحاة منها، أن نلاحظ تغييرًا ما بالمقارنة مع تاريخ وصولي إلى هنا، قبل أربعين سنة: نلاحظ إظهارًا أكثر وضوحًا للرموز الدينيّة، وازداد على سبيل المثال عدد المحجّبات بالنسبة إلى الماضي…
هل تعتبرون هذا الأمر ضارًّا للمجتمع التركيّ؟
ليس في الوقت الراهن. ليس خطرًا إذا تحجّبت النساء، ولكن إذا ما أُجبِرنَ على القيام بذلك من قبل إيديولوجيّات مستوردة من الخارج أو إذا دُفع لهنّ للقيام بذلك. المسألة الحقيقيّة هي الحريّة.
هل هناك حقًّا نساء يُدفع لهنّ لوضع الحجاب من أجل الدعاية؟
هناك من يقول إنّ هذا يحدث. لكنّي
مقتنع بأنّ هذا المستوى من التطرّف لا يشكِّل جزءًا من تركيا الحقيقيّة، بل يأتي بالأحرى من دول إسلاميّة أخرى.
أهي مؤثِّرة إلى هذا الحدّ هنا؟
إنّها تحاول التأثير على المجتمع، لكنّها لم تنجح حتّى الآن. مع ذلك يجب أن نكون حذرين، ومستعدّين للدفاع عن أنفسنا
كيف تعتبرون تقدّم عمليّة انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي؟
كان الأتراك مندفعين جدًّا في البداية، لكنّهم تعبوا الآن لأنّهم لا يفهمون الموقف الأوروبيّ، ويتساءلون عمّا إذا كان انضمامهم مرغوبًا به أم لا. يتساءل البعض: “إذا كانوا لا يريدوننا، فلمَ الإصرار؟”. فيما يعتقد آخرون أن لا حاجة لتركيا كدولة أن تنضمّ إلى الاتّحاد الأوروبي، ويعتبرون أنّ الوضع الحاليّ تجاههم ظلمًا حقيقيًّا. ولا يفهمون كيف دخلت الاتّحاد تلك الدول التي قدّمت طلبات انضمامها بعد تركيا، كبلغاريا ورومانيا. إنّ الأتراك فخورون ويشعرون بالإهانة من تصرّفات بعض الدول. والآن نلحظ نوعًا من عدم الاكتراث بين الشعب بخصوص هذا الموضوع، في حين تواصل الحكومة سيرها للحصول على الاعتراف. على أيّ حال، يعتقد العديد من الناس أنّه حتّى ولو لم يتمّ الوصول إلى الانضام الرسميّ في الاتّحاد، إلا إنّه يمكن إيجاد طرق أخرى. على سبيل المثال، لقد سمعت رجال أعمال يقولون: “تركيا موجودة في أوروبّا بالفعل الآن، لا همَّ إذا لم يكن الأمر كذلك على مستوى مؤسّسات الاتّحاد الأوروبيّ. فالاتّفاقات الثقافيّة والتجاريّة والجمركيّة المعقودة تعمل بشكلٍ جيّد”. ويؤكِّد هؤلاء التجّار أنّه إذا كانت أوروبا لا تريد أن تقبل تركيا، فستكون هي الخاسرة، لا تركيا. هناك في أوروبّا خوف من الإسلام، هذه هي المسألة.
هل تعتقدون أنّ وضع الأقليّات قد يتحسّن مع دخول تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي؟
بالطبع. لقد أعلن البطريرك الأرثوذكسيّ بارثولوميوس والبطريرك الأرمنيّ علنًا أنّهما موافقان على دخول تركيا في أوروبّا. ونأمل معهما نحن أيضًا أنّ يسهِّل الانضمام حلّ مشاكلنا.
كيف يؤثِّر عدم الاعتراف قانونيًّا في تركيا بالكنيسة الكاثوليكيّة على حياة المؤمنين اليوميّة الواقعيّة؟
لا ينطوي هذا الأمر على أيّة مشاكل معيّنة في حياة المؤمنين العاديّة، في حين يجعل حياة الكنيسة صعبة كمؤسّسة. مثال بسيط: أنا النائب الرسوليّ هنا، ومطران هذه الأبرشيّة، ولكن لا يمكنني فتح حساب في المصرف باسم الأبرشيّة. لأنّ الأبرشية “غير موجودة” من الناحية القانونيّة. يجب أن أفتح حسابًا خاصًّا، وهذا مزعج للغاية. من غير الواضح كذلك وضع الأملاك العقاريّة، فكلّ كنائسنا كانت موجودة قبل قيام الجمهوريّة، ثمّ ازداد الوضع تعقيدًا بشكلٍ جذريّ. لست حتّى متأكِّدًا من أنّ اعترافًا قانونيًّا محتملا قد يحلّ هذا الوضع دفعةً واحدة. ينبغي إيجاد حلول لكافّة جوانب الملكيّات وتوضيحها.
ولكن إذا كان هذا الاعتراف بالوضع القانونيّ لا يمكن أن يجري تضمينه في الدستور، فماذا يقترحون كطريق حلّ؟
يقترحون سنّ قانون. غير أنّه سيكون من الصعب للغاية بالنسبة لي أن يحدث هذا. فكيف يمكن تصوّر أن يناقش برلمان دولة كبيرة كتركيا قانونًا يتعلّق بأقليّة لا يعرف عنها الشعب سوى القليل خارج اسطنبول؟ أعتقد أنّه قد يكون علينا اتّباع مسارٍ آخر ككاثوليك، وفق المثال الفرنسيّ. ففي فرنسا تكوّنت الكنيسة الكاثوليكيّة، غير المُعترف بها كشخصٍ قانونيّ، تحت مسمّى جمعيات أبرشيّة تتمتّع بوضع قانوني.
ما هو وضع الحريّة الدينيّة؟
إنّنا نتمتّع بحريّة العبادة، لكنّ الحريّة الدينيّة أكثر من ذلك. على سبيل المثال، ليس لدينا ههنا الحقّ في تأسيس جمعيّة شباب، لأنّه لن يكون لها أيّ اعتبار قانونيّ. إنّهم يرغموننا في الواقع على الانغلاق على أنفسنا، وبرأيي إنّهم يخشون من التبشير بالمسيحيّة. فالأتراك لا يريدون كنيسة كاثوليكيّة تركيّة.
هل هناك متنصّرون؟ وهل لديهم مشاكل مع أسرهم؟
نعم، هناك قلّة من المتنصّرين ولديهم مشاكل مع عائلاتهم التي لا تقبل بتحوّلهم إلى المسيحيّة.