الفاتيكان، 9 فبراير 2007 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر،  في القصر الرسولي في الفاتيكان، أثناء لقائه بالمشاركين في المؤتمر العالمي للجمعيات العلمانية بمناسبة الندوة العالمية التي نظمتها احتفالاً بمرور 60 عامًا على الدستور الرسولي Provida Mater Ecclesia.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

يسعدني أن أكون معكم اليوم، أعضاء الجمعيات العلمانية، وألتقي بكم للمرة الأولى بعد اعتلائي السدة البطرسية. أحييكم جميعًا بعطف.

أحيي الكاردينال فرانك رودي، عميد المجمع الحبري لجمعيات الحياة المكرسة ومؤسسات الحياة الإرسالية، وأشكره لأجل تعابير الإخلاص البنوي التي وجهها إلي باسمكم.

أحيي أيضًا الكاردينال كوتيه أمين عام مجمعكم. أحيي رئيسة المنظمة العالمية للجمعيات العلمانية التي عبرت عن مشاعركم وعن توقعاتكم، أنتم الآتين من دول مختلفة، من جميع القارات، للاحتفال بالندوة العالمية حول الدستور الرسولي Provida Mater Ecclesia.

لقد مرت، كما قيل سابقًا، ستون سنة منذ الثاني من فبراير 1947، عندما نشر البابا بيوس الثاني عشر هذا الدستور الرسولي. ومنح بذلك صيغة قانونية ولاهوتية لخبرة تبلورت في العقود السابقة، ومعترفًا بالتالي أن الجمعيات العلمانية هي واحدة من مواهب لا تحصى، يرافق بها الروح القدس الكنيسة ويجددها عبر العصور.

ولم يمثل ذلك العمل القانوني نقطة وصول، بل بالحري نقطة انطلاق في مسيرة تصبو إلى نوع جديد من التكرس. تكرس المؤمنين العلمانيين والكهنة الأبرشيين، المدعوين إلى عيش الجذرية المسيحية في الحالة العلمانية التي يعيشونها نظرًا لحالتهم الوجودية أو لخدمتهم الرعوية.

وأنتم اليوم هنا لتتابعوا رسم هذا الدرب الذي بدأ منذ ستين سنة، وها إنكم، أكثر فأكثر، مشاركين أمناء، بالمسيح يسوع، في حمل المعنى للعالم وللتاريخ.

وقد تولّد ولعكم من اكتشافكم لجمال المسيح، ولطريقته الفريدة في المحبة، في اللقاء، في شفاء الحياة، في إضفاء الفرح عليها وفي تعزيتها. وهذا هو الجمال الذي تبغي حياتكم أن تغنيه، لكي يكون تواجدكم في العالم علامة انتمائكم للمسيح.

إن ما يجعل من اندراجكم في الشؤون البشرية مرتبة لاهوتية هو سر التجسد ("هكذا أحب الله العالم حتى انه بذل ابنه الوحيد": يو 3، 16). فالعمل الخلاصي قد تم لا بالتعارض، بل داخل التاريخ البشري ومن خلاله. تقول في هذا الصدد الرسالة إلى العبرانيين: "الله الذي تكلم في العصور الغابرة مرات عدة وبأشكال مختلفة بالأنبياء، كلمنا في آخر الأيام بابنه" (1، 1- 2أ). إن عمل الفداء نفسه، قد تم في إطار زمني وتاريخي، وتميّز بطابع الطاعة لمشروع الله الموسوم في العمل الذي قامت به يديه. ومرة اخرى يبين لنا النص الموحى من الرسالة إلى العبرانيين: "بعد أن قال أولاً: "ذبيحة وقرابين ومحرقات وذبائح تكفير للخطايا لم تشأها ولم ترتضها"، مع أنها تُقرّب كما تقضي الشريعة، قال: "هاأنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك" (10، 8- 9). هذه الكلمات هي من المزمور، وترى الرسالة إلى العبرانيين أنها تعبير من الحوار الثالوثي، ككلمات يقولها الابن للآب: "هاأنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك". وهكذا يتم التجسد: هي الكلمات الثالوثية التي تبدأ واقع التجسد: "هاأنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك". والرب يشركنا بكلماته التي تصبح كلماتنا: هاأنذا آتٍ، مع الرب، مع الابن، لأعمل بمشيئتك.

ويجري بهذا الشكل تصميم مسيرة تقديسنا: تقدمة الذات الكلية التزامًا بالمشروع الخلاصي الذي أظهرته الكلمة الموحاة، التضامن مع التاريخ، البحث عن إرادة الرب المطبوعة في الأحداث البشرية التي تضبطها العناية الإلهية.

وفي الوقت عينه، تظهر معالم الرسالة العلمانية: الشهادة للفضائل البشرية أي "العدل، السلام، والفرح" (رو 14، 17)، "السيرة الحسنة"، التي يتحدث عنها بطرس في رسالته الأولى (انظر 2، 12) مرددًا صدى كلمة الرب: "ليضئ نوركم هكذا للناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (متى 5، 16).

بالإضافة إلى ذلك، يشكل جزءًا من الرسالة العلمانية، الالتزام في بناء مجتمع يعترف بمختلف مجالاته بكرامة الشخص البشري وبالقيم التي لا غنى عنها لتحقيق هذه الكرامة: من السياسة إلى الاقتصاد، من التعليم إلى الالتزام من أجل الصحة العامة، من تنظيم الخدمات إلى البحث العلمي.

إن كل واقع خاص يعيشه المسيحي - من عمله إلى اهتماماته الخاصة - مع محافظته على تماسكه النسبي، يجد غايته الأخيرة بكونه مغمور بالغاية نفسها التي جاء ابن الله لأجلها إلى العالم.

لذا اعتبروا أنفسكم مدعوين إلى العمل من خلال كل ألم، كل ظلم، كما من خلال كل بحث عن الحقيقة، عن الجمال وعن الصلاح؛ لا لأن بحوزتكم الحل لكل مشكلة، ولكن لأن كل حالة يعيشها الإنسان، هي لكل مناسبة لعيش الشهادة لعمل الله الخلاصي.

هذه هي رسالتكم. إن تكرسكم، يبين من ناحية النعمة التي آتاكم بها الروح القدس لتعيشوا بموجب دعوتكم، ومن ناحية أخرى، يدعوكم إلى طوعية تامة فكرًا، قلبًا وإرادةً لمشروع الله الذي أوحي به في يسوع المسيح الذي دعيتم إلى اتباعه بشكل جذري.

كل لقاء مع المسيح يتطلب تغييرًا عميقًا في العقلية، ولكن مع البعض، كما هو الحال معكم، الرب متطلب بشكل عالٍ: ترك كل شيء، لأن الله هو الكل وسيكون كل شيء في حياتكم. ليست المسألة ببساطة شكلاً مختلفًا للتعبير عن الارتباط بالمسيح وعن التعلق به، بل هي مسألة اختيار الله بشكل ثابت، الأمر الذي يتطلب منكم ثقة تامة به. وأن تطابقوا حي اتكم على حياة المسيح بدخولكم في هذه الكلمات.

مطابقة الحياة مع المسيح من خلال عيش المشورات الإنجيلية هي علامة أساسية وملزمة، تتطلب بخصوصيتها التزامًا وأعمالاً تليق ب"متسلقي جبال الروح" كما أسماكم البابا المكرم بولس السادس.

إن طبيعة تكرسكم العلمانية تبين، من ناحية، الوسائل التي تستعملون لتحقيق دعوتكم، أي ما يتوسّله أي رجل وامرأة في الحياة الاعتيادية في العالم، ومن ناحية أخرى، يبين تكرسكم الترقي: أي العلاقة العميقة مع علامات الأزمنة التي دعيتم إلى تمييزها، فرديًا وجماعيًا، على ضوء الإنجيل.

وقد تم تمييز موهبتكم مرات عدة من خلال هذه المهمة: أن تكونوا مختبر حوار مع العالم، ذلك "المختبر التجريبي الذي تتبين فيه الكنيسة الوسائل العملية لعلاقتها مع العالم".

من هنا بالذات تنبع آنية موهبتكم، لأن هذا التمييز ينبغي أن يتم، لا خارج الواقع، بل في داخله ومن خلال الالتزام التام به. ويجري هذا من خلال علاقات اعتيادية تقيمونها في العائلة والمجتمع، في العمل المهني وفي شبكة العلاقات المدنية والكنسية.

إن اللقاء مع المسيح، والالتزام باتباعه، يدفع ويشرع الأبواب على لقاء كل إنسان، لأنه إذا كان الله يتحقق فقط من خلال الشراكة الثالوثية، فكذلك الإنسان، فقط من خلال الشراكة يجد ملئه الشخصي.

لا يُطلب منكم أن تلتزموا بحالات حياتية خاصة، أو بمهمات رسولية، أو بمداخلات اجتماعية، إلا بتلك التي تنشأ في العلاقات الشخصية، التي هي نبع غنىً نبوي.

وكما الخميرة التي تخمر العجين (انظر متى 13، 33)، كذلك فلتكن حياتكم، صامتة ومستترة أحيانًا، ولكنها دومًا مشجعة وخلاقة، وقادرة ان تولد الرجاء.

إن حقل عملكم الرسولي هو كل ما هو إنساني، لا في الجماعة المسيحية وحسب – حيث جوهر الحياة هو الاصغاء إلى كلمة الرب وعيش الأسرار التي تغذي هويتكم كمعمدين – أقول أن حقل عملكم الرسولي هو الإنسانية بأسرها، إن في الجماعة المسيحية، أو في المجتمع المدني حيث كنه العلاقات هو البحث عن الخير العام، في الحوار مع الجميع، بالشهادة للأنثروبولوجيا المسيحية التي تشكل تقدم معنىً في مجتمع تائه ومشوّش في مناخ متعدد الثقافات والأديان.

أنتم آتون من دول مختلفة، وخلفيات ثقافية وسياسية ودينية مختلفة، وفي هذه تعيشون وتعملون وتشيخون. كونوا في هذه جميعها باحثين عن الحقيقة، باحثين عن الاعتلان الإنساني لله في الحياة. هي، كما نعرف، طريق طويلة، وحاضرها مضطرب، أما نتيجتها فأكيدة.

على مثال المسيح، كونوا مطيعين للحب، رجالاً ونساءً ودعاء ورحماء، قادرين على السير في سبل العالم لعمل الخير. ضعوا في صلب حياتكم التطويبات لتناقضوا المنطق البشري، ولتعبروا عن ثقة غير مشروطة بالله الذي يريد سعادة الإنسان.

الكنيسة تحتاج إليكم أيضًا لكي تكمّل رسالتها. كونوا بذر قداسة مذرّىً بسخاء في أخاديد التاريخ. تجذروا  في الخدمة المجانية و الفعالة التي يقود روح الرب بها قضايا البشرية. فلتعطوا ثمار إيمان أصيل. فلتكتبوا بحياتكم وبشهادتكم أمثلة وقصص رجاء، تكتبونها من خلال الأعمال التي تلهمها "مخيلة المحبة الخلاقة".

مع هذه التمنيات، أؤكد لكم صلاتي وأمنحكم بركة خاصًا سندًا لكم في مبادرات المحبة  والرسالة.

ترجمة وكالة زينيت العالمية (zenit.org)

حقوق الطبع 2006- مكتبة النشر الفاتيكانية