واشنطن، 22 فبراير 2007 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي خطاب الكاردينال أنجلو سكولا، بطريرك البندقية الذي تلاه في 16 يناير الماضي في المجلس الثقافي للدراسات حول الإيمان والثقافة في واشنطن.

. مركزية الحوار بين الأديان

بمناسبة اللقاء مع ممثلي بعض الجماعات الإسلامية في ألمانيا في 20 أغسطس 2005، كرر البابا بندكتس السادس عشر بحزم أن "الحوار الديني والثقافي بين المسيحيين والمسلمين، لا يمكنه أن يكون خيارًا دوريًا. فهو ضرورة حيوية، عليها يعتمد مستقبلنا بشكل كبير".

عبر البابا بذلك عن قناعة شخصية بشأن الحوار بين الأديان، كان قد عرضها في الماضي في كتابه: "شعب الله الجديد". ففي ذلك الكتاب، صرّح اللاهوتي يوسف راتسنغر: "إن الوعي لِتَغلغل المسيحية في نسيج تاريخ البشرية الديني والروحي - بحيث أن خاصية المسيحية الفريدة باتت غير منظورة لا بل أحيانًا خفية بالكلية – هو من الأسئلة المكربة التي يعيشها المسيحي المعاصر. وقد أصبحت تحديًا واضحًا لإيمانه لا يمكن تحاشيه: إن اكتشاف نسبية التاريخ الشاسع التي هبطت علينا بثقل في عالم بات صغيرًا، إلى جانب اكتشاف رحابة الكون اللامتناهية الذي يبدو وكأنه يستهزئ بكل مركزية بشرية، هما خميرة أزمة الإيمان الحالية التي نواجهها حاليًا. لذا فإن علاقة المسيحية بالأديان العالمية قد أصبحت اليوم ضرورة داخلية للإيمان: لم تعد مجرد لهو فضولي يسعى إلى تكوين نظريته حول مصير الآخرين – ذلك المصير الذي يقرره الله وحده، والذي لا يحتاج إلى نظرياتنا (...). اليوم نحن بصدد أمور أكثر جدية: معنى إمكانية وضرورة إيماننا. فقد باتت الأديان العالمية علامة استفهام بالنسبة للمسيحية، التي تجد نفسها مضطرة أمام جميع هذه الأديان، أن تفكر بشكل جديد حول مزاعمها وأن تتلقى من الأديان الأخرى خدمة تطهير على الأقل، وهذا ما يجعلنا نَحدِس منذ الآن، كمسودة أولى، كيف تستطيع المسيحية ان تفهم هذه الأديان في وجوب-كيانها في بعد تاريخ الخلاص".

 

2. مقياسي الحوار بين الأديان

بعد أن رأينا محورية الحوار بين الأديان، من الأهمية بمكان الآن أن نستخلص المقاييس الأساسية التي يستعملها بندكتس السادس عشر. ويمكننا أن نستعملها كموضوع لنقاشنا ولتعمقنا في الحوار. من غير الممكن التوسع، في هذه المقدمة الوجيزة، بالكلام عن هذه المقاييس بشكل منظم وشامل. لذا اكتفي بتقديم مقياسين.

أ‌) الأديان والحياة الصالحة

الأول، ليس من باب الاهمية بل لأنه الاكثر سلمية، تحدث عنه البابا بندكتس السادس عشر بالأخص في الخطابات التي وجهها إلى المؤمنين المسلمين. يذكرنا بأن الحوار هو صفة كل مؤمن بما أنه عضو في شعب الله وفي الجماعة المسلمة. ويمكننا أن نعاينه من خلال رؤية الإنسان في انخراطه التكويني في المجتمع، ولذا فهو مدعو إلى بناء الحياة الحسنة في المجتمع الذي يعيش فيه.

بهذا المعنى يدعو البابا بقوة إلى ضرورة سير مؤمني الديانات في طريق مشترك: "بإمكان الأديان أن تقوم بدورها في مواجهة التحديات الكثيرة التي تعيشها مجتمعاتنا الحالية. بكل تأكيد، إن الاعتراف بالدور الإيجابي الذي تلعبه الأديان في قلب الجسم الاجتماعي يمكنه ويجب عليه أن يدفع المجتمع ليعمق معرفته بالإنسان وأن يحترم كرامته، واضعًا إياه في صلب العمل السياسي، الاقتصادي، الثقافي والاجتماعي. من الضروري أن يعي عالمنا أكثر فأكثر أن جميع الناس متحدون بعمق وأن يدعوهم إلى اكتشاف تمايزهم التاريخي والثقافي لا للتصادم بل للاحترام المتبادل". (لقاء الأب الأقدس بندكتس السادس عشر بالسلك الدبلوماسي في مقر السفارة الرسولية في أنقرة، 28 نوفمبر 2006).

ب‌) الإيمان، العقل والأديان

المقياس الثاني، وهو الأكثر صعوبة، والذي تم تسليط الضوء عليه في محاضرة جامعة ريغينسبرغ الشهيرة. يتعلق هذا المقياس بالرباط القائم بين الإيمان والعقل والدين وقدرة العقل الإنساني على رؤية هذا الرباط. وقد قال البابا في هذا الصدد في ريغينسبرغ: "إن اللاهوت (...) كلاهوت حق أي كتساؤل حول منطق الإيمان يجب أن يكون له موقعه في الجامعة وفي حوار العلوم الواسع. بهذه الطريقة فقط نصبح قادرين على حوار بين الثقافات والأديان نحن بأمس الحاجة إليه (...) إن عقلاً يصم آذانه عما هو إلهي ويرفض الدين في إطار شبه الثقافات إنما هو منطق عاجز عن الدخول في حوار الثقافات (...) بالنسبة للفلسفة، وبشكل آخر، بالنسبة للاهوت، الإصغاء إلى الخبرات الكبرى وقناعات تقاليد البشرية الدينية (...)، يشكل منبع معرفة؛ ورفضه يعني انتقاصًا غير مقبول في إصغائنا وجوابنا (...) إن جرأة الانفتاح على سعة العقل وعدم رفض عظمته هو البرنامج الذي يخوض فيه لاهوت يفكر حول الإيمان الكتابي، ويدخل في نقاش زمننا الحاضر".

إن هذا الاستشهاد المطوّل بخطاب ريغينسبرغ يمكنه أن يساعدنا في التوصل إلى عناصر أساسية يمكنها أن تكون موضوعًا للحوار. فالعلاقة الصحيحة بين الدين والعقل والأديان، كما يمكن للعقل أن يتوصل إليها إذا لم يستسلم إلى الاختزال، تقودنا إلى وجهين غير منفضلين من وجوه الحوار.

ج) مبدأ التكامل

يمكننا أن نلخص الأول بمبدأ التكامل. مما يتألف هذا المبدأ؟ فلنعرّفه بكلمات هانس أورس فون بالتازار. يقول لاهوتي بازيليا بضرورة مقارنة كاملة بين جميع الأديان. بهذا الشكل "نتوصل إلى سلّم من الحقائق البينة والتي يمكن ترتيبها بحسب المبدأ التا لي: "من يملك الحقيقة الأكبر، له الحق الأكبر" (...) من كان قادرًا على جمع أكبر كمية من الحقائق في نظرته يملك الحقيقة الاكثر حقيقةً" (2)

من هذا المنطلق، يمكننا أن نفهم لماذا يقترح البابا فهم الحوار بين الأديان والحوار الثقافي سوية. لأن تعريف الثقافة الذي لا يأخذ بعين الاعتبار البعد الديني التأسيسي للمسائل الأخروية للعقل (من أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين أذهب؟) هو تعريف ناقص.

د) الحقيقة والحرية

إن الوجه الثاني الذي لا غنى عنه في الحوار يتعلق بالرباط بين الحقيقة والحرية. إذا كان مبدأ التكامل ضروريًا لأنه من متطلبات البحث عن الحقيقة الذي يميز الأديان، في الوقت عينه لا يستطيع بمفرده أن يعي الأفق الكامل للحقيقة. فالحقيقة بطبيعتها تتطلب عمل الحرية التي تستعد للالتزام. ومبدأ التكامل لا يمكنه إلا أن ينحني أما "حرية الله في الإعلان عن نفسه" (3)، مقدمًا نوعًا من المعرفة المطلقة ذات طابع هيغيليّ.

على المبدأ نفسه أن يحترم حقيقة حرية الإنسان المحدودة المدعوة إلى قبول الحقيقة لا إلى الخضوع لها!

لهذا السبب يتحدث بالتازار عن الحقيقة كـ "حب يهب نفسه عبر الحرية ("وحده الحب يستوجب الإيمان") (4).

يتبنى الأب الأقدس بندكتس هذا الوجه في مسألة الحوار بين الاديان في "رسالة بمناسبة مرور 20 عامًا على لقاء الأديان للصلاة من اجل السلام" (2 سبتمبر 2006)، وأراد حينها أن يتكلم بوضوح عن "لغة الشهادة".

على المسيحيين والمسلمين، بشكل خاص، أن يشهدوا، في الحوار المتبادل، عن إيمانهم بالله الأحد وبالمسافة التي لا يمكن تجاوزها – والتي يتحدث عنها الإسلام بشكل مستمر – بين الخالق والخليقة.

ولكن لا ينبغي أن نقلل من وقع الاختلاف، بدءًا من الوحدانية الإلهية الثالوثية، وهي مركزية في المسيحية. ومن خلال الدفاع عن الحرية الدينية في كل مجتمع حضاري، عبر حوار مستمر وشجاع، يتلقى الإسلام والمسيحية الدعوة للشهادة أن أي شكل من أشكال العنف هو بطبيعته غريب عن أصالة الدين بحد ذاتها.