اليوم يبدأ زمن الصوم. والصوم لا يكون فقط بالانقطاع عن تناول الطعام من زمن محدد الى زمن محدد، أي من نصف الليل الى نصف النهار. وهذا أمر مستحسن، وله أجر عند الله، وهو يساعد على ترويض الأهواء، والتغلب على قوى الشر التي تثور في داخلنا. وله منافع صحية، وقديما قيل: “ان في الصوم صحة البدن”. ولكن المفجع في أيامنا أن هناك في مجتمعنا أناسا يموتون من تخمة، والى جانبهم أناس يموتون من جوع. وزمن الصوم هو الزمن الذي تناشد فيه الكنيسة أبناءها على مساعدة بعضهم بعضا، وهي تناشد خاصة الأغنياء لمساعدة الفقراء. وبعد، هذا المال هو مال الله، لأن التوفيق منه، وهو الذي يسعد ويفقر، يعلي ويحدر، ليكون كلا في الكل. وفيه أنتم ممتلئون، يقول بولس الرسول (كولوسي 2: 10).
ونعود الى الحديث عن العائلة، وما يطلق حولها من أضاليل، ظهر بعضها في قمة بكين، منها مساواة الرجل بالمرأة، ليس فقط في الحقوق بل ايضا في الوظائف، حتى تلك التي يقتضي لها قوى طبيعية لم يمنحها الله المرأة. وأرادوا لها مساواة كاملة بالرجل، فيما الله خص كلا من الرجل والمرأة بما يميز بينهما. وهذا ما ظهر خاصة في قمة بكين.
تحطيم المجتمع
ان ما أشرنا اليه من نظريات، ومنها نظرية، عرضت في مؤتمر بكين، تقول بأن لا تمييز بين رجل وامرأة، من حيث الوظائف الطبيعية. وهذه النظرية تقود الى ما يؤول الى تحطيم العائلة والمجتمع، على حد سواء. وقد أريد بهذا القول الوصول الى مجتمع دون طبقات. وكان هناك عرض، يتناول تحطيم اللغة، والعلاقات العائلية، والايلاد، والجنس، والتربية، والدين، والثقافة. وعدة العمل كانت اعادة تحديد النوع.
والنوع، الذي حل في لغتهم محل الجنس، يتضمن الطبقة، والطبقة تتضمن عدم المساواة. والكفاح من أجل تحطيم النوع يقود سريعا الى الغاية المطلوبة. وهناك الثقافة الموروثة، والنوع يرتكز، على ما يبدو، الى هذه الثقافة. والقضاء على النوع، يعني القضاء على الموروث، وعلى الظلامات التي ارتكبت بحق النوع، باسم عدم المساواة.
وهناك مقال في احدى المجلات جاء فيه: “الايلاد هو غير تربية الأولاد، ومن العجب ألا يكون الرجل والمرأة مسؤولين على قدم المساواة، عن الشؤون البيتية، وأن يقضي الأولاد أكثر أوقاتهم مع والدتهم، وليس مع والدهم. والمستقبل سيكون بان يتساوى الرجل والمرأة تقريبا في القيام بكل نشاطات الحياة، ابتداء بالعناية بالأولاد، والاهتمام بأعلى شأن سياسي. وهذا ما يحدث اليوم، وهناك نساء عديدات يتولين رئاسة حكومات، أو إحدى الوزارات، ويقمن بأعمال مأجورة. لذلك يجب الابتعاد عن النوع، اذا كنا أوفياء لمثلنا العليا الديمقراطية، يقول المقال. وهذا ما يؤول الى بسط العدالة في المجتمع، ويجعل من العائلة مكانا يحمل الأولاد على تنمية معنى العدالة.
وفي سبيل هذا الهدف، يقول بعضهم، يجب تحطيم نوع التربية التي يتلقاها الأولاد. وهذا ما قال به أحد رؤساء الدول، في مؤتمر نظمته أوروبا سنة 1995، اعدادا لمؤتمر بكين. وهذا، في زعم بعضهم، يؤول الى تحطيم العائلة، والتربية، والمجتمع. ويجب توجيه البنات الصغيرات الى القيام بأعمال غير تقليدية، ويجب الا يعرض عليهن صورة المرأة كزوجة ووالدة، وألا يتمرن على نشاطات نسائية تقليدية.
والتربية هي أمر مهم لتغيير العادات التي نشأ عليها الرجل والمرأة بما خص دور كل منهما في المجتمع. والأمثلة القديمة يجب حذفها من الكتب والمناهج المدرسية. وعلى المعلمين أن يسهروا على اختيار الفتيان والفتيات مهنة عن ملء وعي ومعرفة، وليس على أساس تقليد معتمد.
الهدف الأول، العائلة
ان حذف العائلة الطبيعية يقود الى حذف احدى أهم وظائفها، أي الايلاد. فتشيع اذ ذاك العلاقات الجنسية التي قبحها منذ زمن بعيد مار بولس الرسول، وتحل الفوضى في المجتمع ولا يعود هناك عائلات معروفة. وهذه المساواة بين الرجل والمرأة تؤدي الى تحطيم العائلة والمجتمع. وهذا لم يتخيله سابقا كل الذين قالوا بالانفلات الأخلاقي والأباحية. وهناك من يعلن عداءه للعائلة بالقول: “انها تخلق نظام الطبقات وتسانده”. وفي العائلة يتلقى الأولاد المعلومات الأولية عن الطبقة السائدة، وهذا ما يبرر مؤسسات أخرى في المجتمع المدني. والعائلة هي التي تعلم الأولاد الدين، وأن يكونوا مواطنين صالحين. وسلطة الطبقة السائدة في العائلة، هي التي تستند الى علاقة الرجل بالمرأة في ما خص قمع هذه، من حيث الجنس. وهذا يعود الى نظرة شيوعية لا تريد أن يكون هناك فرق بين الطبقات. وهذا الفرق هو في نظرهم ظلم.
وهذا يعني أن المرأة عندما تبقى في المنزل للاهتمام بأولادها، فيما الرجل يذهب الى مزاولة عمله خارج المنزل، فالمسؤوليات غير متكافئة، ويستنتج من هذا القول أنه ما من امرأة يجب أن تبقى في المنزل، وأن المجتمع يجب أن يكون مختلفا، ولهذا ان الذين يقولون هذا القول يذهبون الى حد طلب تحطيم العائلة، ليس فقط لأن العائلة تجعل من المرأة عبدا، في نظرهم، بل لأن لها تأثيرها على الأولاد الذين يقبلون العائلة، والزواج، والأمومة، كأمر طبيعي.
واذا كان القصد وضع حد لقسمة العمل بين الرجل والمرأة، والتي بموجبها تكون المرأة أما، علينا أن نتفهم الآلية التي تنتج هذه القسمة. والقصد من ذلك التحرير من التضييق الذي يفرضه تنظيم الحياة الاجتماعية. وهذا يقضي بأن يكون الاهتمام بالأولاد مناصفة بين الرجل والمرأة.
وهناك من يقولون بأن مسؤوليات المرأة في المنزل هي حاجز يحد من تحقيق ذاتها. والاطار الخاص يعتبر ثانويا، وأقل أهمية, وال
عائلة والعمل المنزلي هما ثقل له آثاره السلبية على مشاريع المرأة المهنية.
رأي الأمم المتحدة
وهذه الحرب المشهورة على العائلة تضاد بطريقة سافرة “الاعلان الشامل عن حقوق الانسان” الذي نشرته منظمة الأمم المتحدة سنة 1948. وفي البند السادس عشر، تدافع الأمم المتحدة عن العائلة والزواج بقولها:
اولا: ان الرجال والنساء، عندما يدركون سن البلوغ، يحق لهم ولهن دونما أي عائق بسبب العرق، والجنسية، او الدين، بأن يتزوجوا ويؤسسوا عائلة، ولهم أن يتمتعوا بنفس الحقوق في ما خص الزواج، طوال حياتهم الزواجية، وفي حال فسخ الزواج.
ثانيا: لا يمكن عقد زواج الا عن حرية ورضى تام من قبل الزوجين.
ثالثا: العائلة هي العنصر الطبيعي والأساسي للمجتمع، وتحق لها حماية المجتمع والدولة.
غير أن بعض الحاضرين في قمة بكين وضعوا جانبا هذه الأقوال، وأبرزوا ضرورة تحطيم العائلة، والزواج، والأمومة، والأنوثة، ليكون العالم حرا.
غير أن مندوبي معظم الدول في مؤتمر بكين رفعوا الصوت عاليا ليدافعوا عن الحياة والقيم العائلية، ورذلوا هذه الاقتراحات التي أشرنا اليها، خاصة عندما رأوا أن المنادين بها قد حذفوا من خطبهم لفظة زوجة، وزوج، وأم وأب. وكان هناك من رد على هذا الضلال بالقول: “ان هذه الوثيقة تعيد الى الأذهان نظريات نسائية أصولية، معروفة بمواقف عدائية تطعن بالقيم العائلية، والزواج، والأنوثة.
وكان البابا يوحنا بولس الثاني قد أشار، قبل انعقاد مؤتمر بكين، الى العلاقة الوثيقة القائمة بين المرأة والعائلة. وقال أيضا: “ما من جواب يمكن اعطاؤه عن قضايا المرأة دون النظر الى وضع المرأة في العائلة”… وأضاف: “لابد، احتراما لهذا النظام الطبيعي، من مقاومة هذا المفهوم الخاطئ الذي يقول ان وظيفة الأم تشكل ضغطا على المرأة”.
ولكن لم يؤخذ للأسف بهذا القول. وقد علل بعضهم موقفهم المناقض له بقولهم: “لم يعد الرجال وحدهم الأقوياء الذين يقومون بأود العائلة، ولا النساء يكتفين بأن يكن زوجات وأمهات. والصورة القديمة عن المرأة كان لها تأثيرها السلبي.
وهناك من كتب، بعد ذلك، اذا كان صحيحا، أنه يجب على النساء ألا يكتفين بدور الزوجة والأم، ففي الواقع ان بينهن كثيرات يقمن بهذا الدور. وصورة المرأة التي تكرس وقتها لبيتها ليست قبيحة.
أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،
الصوم لا يكون فقط بالانقطاع عن الطعام، بل أيضا بالانقطاع عن الكلام الذي يثير المشاعر، ويباعد بين الناس، ويؤذي المواطنين في صيتهم، ومسراهم، وعملهم. وعندما جاء يسوع تلاميذه يوما يشكون اليه عجزهم عن اتيان ما يأتيه من معجزات، وخاصة اخراج الشياطين من بعض المرضى، قال لهم: “هذا النوع من الشياطين لا يخرج الا بالصوم والصلاة”، على ما ورد في انجيل القديس متى.
وان ما سمعناه من أقوال لم نتعود سماعها من قبل، وما شاهدناه من مشاهد غير مألوفة في هذه الأيام الثلاثة الماضية، يدل على أن شياطين كثيرة انبثت فيما بيننا، وهي تنفث سمها القاتل، وتثير الناس على بعضهم، فلا يبقى لهم الا أن يتضاربوا، ويتقاتلوا، ويتذابحوا، ولولا الحواجز التي أقامها الجيش للحيلولة دون وصول بعضهم الى بعض، لكانت وقعت المجزرة. ولا غرو، فقد قيل قديما: “ان الحرب أولها كلام”. كأننا لم نختبر بعد الحرب وما جرته علينا من ويلات.
ليت هذا الجيش يحظى برعاية خاصة من قبل المسؤولين وجميع اللبنانيين، ويحصل على ما هو في حاجة اليه من عتاد تمكنه من القيام، على أفضل وجه، بما هو مطلوب منه، في هذه الأيام السوداء. ليت هذا السلاح الذي يظهر هنا وهناك، وبين الحين والحين، بأيدي بعض الناس يكون فقط بأيدي الجيش، اذن لكان المواطنون يعيشون في طمأنينة، في غير خوف بعضهم من البعض الآخر. ليتنا نعمل معا، دون أن يحاذر بعضنا بعضا، على بناء دولة تكون دولة حق، وعدالة، وحرية، واستقلال ناجز تام، لا تتقاذفها رياح تهب علينا تارة من شرق وغرب، وتارة من شمال وجنوب. اذ ذاك يثق اللبنانيون، كل اللبنانيين بوطنهم، فلا يذهبون يبحثون عن سواه في مشارق الأرض ومغاربها، ونتساءل، هل اذا أخاف اللبنانيون بعضهم بعضا، ولاذ أكثرهم بالهجرة بحثا عن وطن بديل، ترى هل يبقى لهم وطن؟”