بكركي، 27 فبراير 2007 (ZENIT.ORG). – ننشر في يلي الجزء الأول من الفصل الثاني من الرِّسالة الرَاعويَّة التاسعة التي يوجّهها مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك إلى مؤمنيهم في شتـّى أماكن إقامتهم، بعنوان شباب اليوم كنيسة الغد. « كَتَبْتُ إلَيكُم، أَيُّهَا الشُّبَّانُ : إنَّكُم أَقوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ الله مُقِيمَةٌ فِيكُم» (1 يوحنا 14:2). سننشر في الايام القادمة اقسام الرسالة المتبقية. لمعاينة النص الكامل لهذه الرسالة يمكن زيارة موقع البطريركية اللاتينية في القدس: http://www.lpj.org/newsite2006/patriarch/pastoral-letters/2006/jeunes2006_ar.html
الفصل الثاني
الشهــادة المسيـحيّة
«فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاسِ، لِيَرَوْاأعمَالَكُم الصَّالِحَة،
فَيُمَجِّدُوا أَبَاكُم الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 16:5).
أولاً: كيف وعمَّاذا نشهد؟
12. أيّها الشباب، قَبِلتم المسيح وآمنتم به. بالمعموديّة لبستموه، وفيه هو الابن الوحيد صرتم أبناء الله. فيجب عليكم أن تجدِّدوا باستمرار معرفتكم لإيمانكم ومقتضياته، لتعيشوا وفقًا لكرامة دعوتكم وتشهدوا في كل ظرف وحال للرب القائم من بين الأموات.
المعموديّة ولادة جديدة، فيها نلبس الابن، وفيها نصير أبناء الآب وهياكل للروح القدس. تضع المعموديّة فينا بذار النِعْمَة، بها نحيا وننمو ونعطي ثمارًا. إلاّ أنَّ هذه البذار تحتاج إلى غذاء وعناية. وقد هيّأ الله لنا، في كنيسته، الوسائل الكفيلة بذلك.
أوّل هذه الوسائل هو كلام الله المحيي الذي تحفظه الكنيسة وتقدّمه لنا. إنّه قصة خبرةٍ عاشها الإنسان مع الله، وهو بُشْرى الخلاص والمصير المجيد. إنه رسالة حبٍّ كتبها الله للإنسان. وهو كما قال الربّ: «نور وحقّ وحياة»، به يحيا الإنسان، وليس فقط بالطعام (ر. متّى 4:4)، به نعرف الله وتدبيرَه الخلاصيّ عبرَ الأجيال، وتجسُّدَ ابنه وفداءَه، وطبيعةَ الإنسان ودعوتَه ومصيره، ووصايا الله التي أعطاها للناس لينتصروا بها على الشرّ، في الخارج وفي داخل الذات، فيقوموا للمجد والحياة الأبديّة.
وكم من أبنائنا الشابّات والشبّان خلبت عقولهم وقلوبهم مبادئُُ ونظرياتٌ وفلسفات برّاقة وخدّاعة، لا تستطيع أن تعطيهم الحياة الحقيقيّة، فساروا وراء مظهر حياة يقودهم إلى الموت، لأنّهم بعيدون عن كلام يسوع المسيح ومثاله، هو وحده القادر على إعطاء الحياة، لأنه هو الحياة.
إنّ الذين قبلوا النور يبقون في جهلهم إن لم يسعوا كل يوم إلى النور ليزدادوا معرفة لسرّ المسيح وحبٍّا له واتّحادًا به. كلام الله مثل حبّة القمح، التي تحيا وتثمر عندما تقع في أرض جيّدة على شرط أن تتلقَّى العناية اللازمة بالإضافة إلى نور الشمس وماء المطر.
لذلك وجب على المسيحيّ، الساعي إلى الحياة، أن يتناول الكتاب المقدّس من يد كنيسته، فيتأمّل فيه ويلازمه ويتعرّف على سرّ الله وإرادته، وعلى أسرار الكون والإنسان والحياة. وعليه أيضًا أن يسعى بأمانة لأن يعيش بحسب الكتابِ لأنَّه كلام الله.
13. إنّ الله يعرف الإنسان وحاجاته. فكما أعطاه وسائل طبيعيّة لحياة جسده، كذلك أراد أن يوفّر له الوسائل لحياته الروحيّة. لذلك أنشأ يسوع المسيح في كنيسته الأسرار المقدّسة وسائلَ تنطلق من الطبيعة، فتصير بالتقديس وسائل فائقة الطبيعة من أجل حياة فائقة الطبيعة. فالماء والزيت والخمر والخبز وما سوى ذلك ممّا نستخدمه في منح الأسرار المقدَّسة، هي أصلاً لحياة الجسد، ولكنَّها تتحوَّل بإرادة يسوع المسيح وتصير وسائلَ لحياة الروح.
إنّنا نجد مع الأسف مسيحيّين كثيرين من أبنائنا يجهلون معنى الطقوس وطبيعة الأسرار وضرورة تناولها وكيفيّة ممارستها. ونجد أيضًا من يستخفُّ بها. مع أنَّ الربّ يسوع المسيح تكلَّم بوضوح على ضرورة الأسرار لمَّا قال في المعموديّة: «فَمَن آمَنَ وَاعتَمَدَ يَخلُصْ، وَمَن لَم يُؤمِنْ يُحكمُ عَلَيهِ» (مرقس 16:16)، وقال في الإفخارستيا: «إذَا لَم تَأكُلُوا جَسَدَ ابنِ الإنسَانِ وَتَشرَبُوا دَمَهُ فَلَن تَكُونَ فِيكُمُ الحَيَاةُ» (يوحنا 52:6).
تَكمُن قيمة الطقوس والأسرار المقدَّسة في معناها ومفاعيلها. فهي تجعل حاضرًا الحدث الأساس الذي قام به المسيح لخلاص العالم. إنّها تجديد لسرّ التجسّد والفداء في كل مراحله، تجعله حاضرًا الآن وهنا، بحيث يعيشه المؤمنون اليوم كما لو كانوا يعيشونه في حينه. بذلك تصبح الأسرار وسائل فائقةَ الطبيعة فاعلةً ومقدِّسة.
في الطقوس والأسرار نأخذ أشياء الدنيا ونقدّسها، فتقدّسنا بدورها وترتفع بنا إلى قداسة الله ومجده. ولهذا لا يليق بنا اتخاذُ هذه المقدَّسات والانحدارُ بها إلى المستوى الأرضي، كما يفعل بعضنا في مناسبة الأعياد وقبول الأسرار، فبدلاً من أن يجعلوا الأعياد والأسرار ينابيعَ نِعَمٍ، فإنَّهم يحوّلونها إلى تقاليدَ ومناسبات دنيويّة.
الإيمان والعقل
14. البشر على العموم، والشباب بنوع خاص، هم في سعي شبه دائم إلى معرفة الحقيقة، حقيقة وجود الإنسان وأصله ومصيره. لأنّ لدى الإنسان رغبة ملحّة في معرفة الله والاتّحاد به. عقله هو الموهبة العظمى التي تميّزه عن سائر المخلوقات، به يعرف الكون ونفسه والله. حاول الإنسان منذ بدء وجوده أن يكتشف هذا السرّ. والف
لسفاتُ والأديان والفنون كلّها تعبّر عن هذا الشوق العميق إلى معرفة الله والاتّحاد به.
غير أنَّ عقل الإنسان، بسبب الخطيئة المعطِّلة، ليس قادرًا وحده على إدراك الحقيقة بكلّ تألّقاتها. فدنت الحقيقة منه، وأتت للقائه وتجلّت أمامه، وهذا ما نسمّيه بالوحي، به أظهر الله ذاته للإنسان من خلال مخاطبته بعض المختارين الذين صاروا ملهَمين وشهودًا. «وَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ» (غلاطيه 4:4) ظهر في ابنه، الكلمة المتجسّد.
العقل إذاً هو الوسيلة التي بها يدرك الإنسان الله، وهو لا يدركه كما يليق إلاّ إذا أتى الإيمان إلى نجدته. فلا تَناقُضَ بين العقل والإيمان كما يدَّعي البعض، بل هما متعاونان متكاملان في مسيرة بلوغ الإنسان إلى غايته التي هي الله سبحانه وتعالى.
لا يمكن للعلم البشري أن يتخطّى حدود المادة والمكان والزمان والمقاييس… بينما الإيمان، يتناول، انطلاقًا من المحسوس، ما هو بعده وفوق المادة والزمان والمكان. في العِلم، يسأل العقل عن «كيفيّة الأمور»، كيف تجري أمور الكون والبشر. أما في الفلسفة والإيمان فالسؤال هو «لماذا»، ما الهدف من وجود الكائنات؟
في العالم نظريّات فلسفيّة تروّج لفكرةِ تناقُضِ العلمِ والعقلِ مع مقتضيات الإيمان، أو تعمل للفصل بينهما. وإنّنا لنرى شبّانًا وشابّات يبحثون بإخلاص عن الحقيقة، يقعون ضحيّة هذا المبدأ الذي يرفض الإيمان كطريق يؤدّي بالإنسان إلى نموّه وكماله وبلوغ غايته الأخيرة.
يقول البابا يوحنا بولس الثاني: «من بين الخدمات التي تؤدّيها الكنيسة للبشريّة خدمة تُلزِمُها بطريقة خاصة جدًّا: وهي خدمة الحقيقة»[1]. من أُولى واجبات الكنيسة أن تسعى لتكشف للعالم عن حقيقته وحقيقة الله وأن تقدّم له مُخلِّصَه، الذي قال عن نفسه إنه «الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاة» (يوحنا 6:14). «فالمسيح، نور الأمم»، ينير العالم وينير وجهَ كنيسته التي يرسلها «إلَى الخَلقِ أجمَعِينَ» (مرقس 15:16). «والكنيسة، شعب الله بين الأمم، والتي تعرف تحدّيات التاريخ الجديدة والجهود التي يبذلها البشر في البحث عن معنى الحياة، تعرض على الجميع الجواب النابع من حقيقة يسوع المسيح وإنجيله»[2].
العقائد وتعليم الكنيسة
15. سَلَّمَ يسوع المسيح كنيستَه مسؤوليّةَ تعليمِ حقائقِ الإيمان وشرحِها للناس، وتوضيحِ القواعد للتصرّفات والعلاقاتِ البشريّة التي يجبُ أن تستنير بهذه الحقائق، فتَصِلُ بالإنسان وبالمجموعات البشريّة إلى السعادة الحقّة وإلى الكمال.
وتحدِّد الكنيسة العقائد المسيحيّة بدقّة ووضوح، لكي تكون للمؤمنين وسواهم دليلاً ونورًا لما يؤمنون به ويفعلونه، وضمانة لعدم انحرافهم في الضلال.
تعليم الكنيسة الاجتماعي والخلقي هو بمثابة تفسير صادق وشرعيّ للكتاب المقدّس، وقاعدة تطبيق عمليّ له في الحياة الحاضرة، في مواجهة المتغيّرات البشريّة والاجتماعيّة.
فتقدُّمُ العلوم المختلفة وتأثيرُها على حياة الإنسان وطبيعته وعمله وعلاقاته يضع الإنسان اليوم أمام تحدّيات جديدة في ما يتعلَّق بإيمانه ومعرفته لأُسس وجوده وحقيقة مصيره. فالنظريّات متعدّدة والانحرافات كثيرة، وهناك خلط كبير في مفهوم الحضارة نفسها يُفضي بالإنسان إلى حضارة الموت وحضارة الجهل والاستغلال والظلم.
لذلك فإنَّ الكنيسة، وهي الأمّ والمعلّمة، تحرص على إيمان أبنائها ومصيرهم، وعلى مسيرة الحقِّ والمحبّة والفضائل عند البشر. الكنيسة «تميّز علامات الأزمنة» وتقدّم للبشر النور الحقيقيّ لحياتهم ولمصيرهم الأبديّ، استنادًا إلى كلام الربّ الذي لا يَغشّ ولا يُغشّ، وهو «الَّذِي جَاءَ لِيَشهَدَ لِلحَقّ» (يوحنا 37:18).
ولدى الكنيسة أساليب متنوّعة لتنشئة المؤمنين تنشئةً مسيحيّة صالحة. فبالإضافة إلى التربية الدينيّة من خلال الليتورجيا والأسرار المقدّسة، هناك كلمة الله في الكنائس والمدارس، في الوعظ والإرشاد. وتستخدم الكنيسة وسائل الإعلام والإعلان الحديثة، واللقاءات المصغّرة لشرح الإنجيل المقدس. وتساعد العائلات في تربية أبنائها وبناتها، لتسلّم لهم حقائق الإيمان وتربّيهم على الالتزام في الكنيسة. وتولي اهتمامها للحركات الرسوليّة والأخويات والجماعات الكنسيّة التي ترافق المؤمنين، ولا سيّما الشباب والأولاد، والتي تعوّض عمّا ينقصهم من تنشئة مسيحيّة واسعة.