بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الخميس 9 أكتوبر 2008 (Zenit.org). – غالبًا ما يساء فهم معنى “التقليد” في الحياة المسيحية، وذلك بسبب المفهوم العامي الذي يطابق بين التقليد والرجعية وحتى التخلف. ولكن كنه التقليد الحقيقي ليس التمسك الأعمى بالماضي، بل هو “أمانة خلاقة”، بحسب كلمات اللاهوتي اليسوعي فرنسيس أو-سليفان. لا بد للتقليد المسيحية أن يتمتع بهاتين الخاصيتين دون انفصال لكي لا يفقد هويته أو يضيع وجهته.
التقليد هو من ناحية “أمانة” إلى تراث الإيمان وإلى إرث الآباء. فالتقليد – traditio بالاتينية – يعني نقل، تسليم ما قد تلقاه المرء، الإيمان المسيحي ليس ثمرة إبداع ديني أو مراقٍ صوفية، بل هو هبة الله لذاته في المسيح إلى الرسل لكي يسلموها بدورهم إلى الكنيسة، ويتابع الرسل هذا “التسليم” إلى الكنيسة عبر خلفائهم الأساقفة. وضمانة الاتصال بالتقليد الأولي، بالتسليم الأولي يأتي من الأمانة والشركة مع الجماعة الكنسية.
من ناحية أخرى، التقليد هو عمل “خلاق”، هو انثقاف آني يحمل نقاوة ونضارة تسليم المسيح لذاته في خبرة اليوم. وهذا الروح الخلاق لا ينفصل عن الأمانة بل ينبع من الخصب الداخلي الكامن في التقليد عينه.
بولس مثال الأمانة الخلاقة
لقد قدم الأب الأقدس بندكتس السادس عشر مثلاً بليغًا عن هذه الأمانة الخلاقة في حديثه أمس الأربعاء عن خبرة بولس الرسول ليسوع-التاريخ، لحياته، كلماته، تعاليمه. فبولس لم يلتق بيسوع خلال حياته الأرضية. بل التقى به عبر “تسليم” أي “تقليد” الرسل والكنيسة الناشئة وتتضمن رسائل بولس – بحسب ما أوضح البابا – 3 أشكال من الإشارات إلى يسوع ما-قبل-الفصح.
في المقام الأول، هناك إشارات واضحة ومباشرة حيث يتحدث بولس عن سلالة يسوع الداودية، ويعلم بوجود “إخوة” يسوع وأقاربه، يعرف مجريات العشاء الأخير، يعرف كلمات أخرى ليسوع، مثل مسألة عدم انفصام الزواج، حول ضرورة أن تعتني الجماعة بحاجات من يبشر بالإنجيل لأنه عامل يستحق أجرته ويعرف أيضًا صليب يسوع. هذه هي الإشارات المباشرة لكلمات وأفعال من حياة يسوع.
في المقام الثاني، يمكننا أن نلحظ في بعض الجمل من رسائل بولس تلميحات عدة إلى التقليد الذي تشهد له الأناجيل الإزائية.
“وأخيرًا – تابع الأب الأقدس – من الممكن أن نرى أسلوبًا ثالثًا لحضور كلمات يسوع في رسائل بولس: عندما يطبق بولس تقليد ما-قبل-الفصح على وضع ما بعد الفصح”.
وقدم البابا موضوع ملكوت الله كـ “مثال نموذجي” لأن هذا “الموضوع هو بكل تأكيد في محور تبشير يسوع-التاريخ”.
“يمكننا أن نجد لدى بولس نقلاً لهذا الموضوع، لأنه بعد القيامة بات واضحًا أن يسوع كشخص، كالقائم من الموت، هو ملكوت الله. وبالتالي، حيث يصل يسوع يصل الملكوت. وبهذا الشكل يتحول بالضرورة موضوع ملكوت الله – الذي فيه يُستبق سر يسوع – إلى الكريستولوجيا”.
ومثال آخر على أمانة بولس الخلاقة ولما أسماه البابا “التحويل الأمين للنواة العقائدية” هي “الألقاب” التي تطلق على يسوع. فقبل الفصح، “كان يسوع نفسه يعرف عن ذاته بلقب “ابن الإنسان”؛ بعد الفصح يضحي بديهيًا أن ابن الإنسان هو أيضًا “ابن الله””، وبالتالي “فلقب بولس المفضل ليسوع هو “Kýrios”، أي “رب”، والذي يشير إلى ألوهة يسوع.. يظهر الرب يسوع، عبر هذا اللقب، في ملء ضوء القيامة”.
وأيضًا: “كان يسوع يخاطب الآب ويدعوه “أبا – أيها الآب”. إنها كلمة حميمية جدًا وتوازي في لغتنا كلمة “بابا”، التي يستعملها الأطفال المتحدين حميميًا بوالدهم. حتى ذلك الحين لم يكن يخطر ببال أن يستعمل اليهودي هذه الكلمة عندما يتوجه إلى الله؛ أما يسوع، كونه الابن الحق، ففي آونة الحميمية هذه يتكلم هكذا فيقول: “أبا، أيها الآب”. في رسالتي بولس إلى الرومانيين وإلى الغلاطيين، تظهر بشكل مفاجئ كلمة “أبا” هذه، والتي تعبر عن بنوة يسوع الحصرية، على فم المعمدين (راجع رو 8، 15؛ غلا 4، 6)، لأنهم تلقوا “روح الابن”، وهم يحملون الآن في ذاتهم هذا الروح ويستطيعون أن يخاطبوا الله مثل يسوع ومعه كأبناء حقيقيين، ويستطيعون أن يقولوا “أبا” لأنهم صاروا أبناءً في الابن”.
وأخيرًا، في أمانته الخلاقة أوضح بولس وعمق فهم البعد الخلاصي في موت يسوع، كما نجدها في القول الإنجيلي الذي بحسبه “لم يأت ابن الإنسان لكي يُخدم بل لكي يَخدم، ولكي يهب ذاته فداءً لكثيرين” (مر 10، 45؛ مت 20، 28).
قال البابا مبينًا تطور فهم بولس قائلا: “إن الانعكاس الأمين لكلمة يسوع هذه يظهر في العقيدة البولسية حول موت المسيح كعتق (راجع 1 كور 6، 20)، وكفداء (راجع رو 3، 24)، وكتحرير (راجع غلا 5، 1) وكمصالحة (راجع رو 5، 10؛ 2 كور 5، 18 – 20). هذا هو محور اللاهوت البولسي، والذي يرتكز على كلمة يسوع هذه”.