القديس بولس (9). أهمية الكريستولوجيا
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
في تعاليم الأسابيع الماضية تأملنا بـ “ارتداد” القديس بولس، الذي هو ثمرة اللقاء الشخصي بيسوع المصلوب والقائم، وتساءلنا بشأن العلاقة التي ربطت رسول الأمم بيسوع الأرضي. أود اليوم الكلام عن تعليم القديس بولس بشأن محورية يسوع القائم من الموت في سر الخلاص، بشأن تعليمه الكريستولوجي.
بالواقع، إن يسوع المسيح القائم، “الممجد فوق كل اسم”، هو محور كل تفكيره. المسيح، بالنسبة للرسول، هو مقياس تقييم الأحداث والأمور، وغاية كل جهد يقوم به لأجل التبشير بالإنجيل، الشغف العظيم الذي يدعم خطواته في سبل العالم. ونحن بصدد مسيحٍ حيٍّ وملموس: المسيح الذي – بحسب قول بولس – “أحبني وبذل ذاته لأجلي” (غلا 2، 20). هذا الشخص الذي يحبني، والذي أستطيع أن أخاطبه، والذي يصغي إلي ويجيبني، هذا هو المبدأ لتفسير العالم ولإيجاد سبيل التاريخ.
من يقرأ كتابات القديس بولس يعرف جيدًا أنه لم يهتم بسرد الأخبار المفردة التي دارت في حياة يسوع، حتى ولو يمكننا أن نفكر بأنه كان يخبر أكثر في تعاليمه الشفهية عن يسوع ما-قبل-الفصح منه في رسائله، التي هي توصيات في حالات خاصة.
كان قصده الرعوي واللاهوتي يهدف إلى بناء الجماعات الناشئة، وبالتالي كان بديهيًا أن يركز كل تبشيره على يسوع المسيح كـ “رب”، حي الآن وحاضر الآن في وسط تلاميذه. تنبع من هنا جوهرية الكريستولوجيا البولسية، التي توسع أعمق السر مع اهتمام ثابت ومحدد: بالطبع، إعلان يسوع الحي، وإعلان تعليمه، ولكن بشكل خاص، إعلان الحقيقة المحورية المتمثلة بموته وقيامته، كقمة وجوده الأرضي وجذر التطور اللاحق في كل الإيمان المسيحي، ولكل واقع الكنيسة. بالنسبة للرسول، القيامة ليست حدثًا قائمًا بحد ذاته، منفصل عن الموت: القائم هو دومًا ذلك الذي صلب أولاً. وحتى كقائم من الموت هو يحمل جراحه: الآلام حاضرة فيه ويمكننا أن نقول مع باسكال أنه يتألم حتى انقضاء الدهور، رغم أنه قائم ويعيش معنا ولأجلنا.
لقد فهم بولس هذا التماثل بين القائم وبين المسيح المصلوب في اللقاء على طريق دمشق: في تلك اللحظة، ظهر له بوضوح أن المصلوب هو القائم وأن القائم هو المصلوب الذي يقول لبولس: “لماذا تضطهدني؟” (رسل 9، 4). بولس يضطهد المسيح في الكنيسة ولذا يفهم أن الصليب ليس “ملعونًا من الله” (تث 21، 23) بل ذبيحة لخلاصنا.
يتأمل الرسول مذهولاً السر الخفي في المصلوب القائم ومن خلال الآلام التي احتملها المسيح في بشريته (البعد الأرضي) يصل إلى الوجود الأبدي الذي من خلاله كان واحدًا مع الآب (البعد ما-قبل-الزمني). يكتب بولس: “عندما حل ملء الزمان، أرسل الله ابنه، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الشريعة، ليفتدي الذين هم تحت الشريعة، لكي ننال التبني” (غلا 4، 4 – 5).
يسبق الإعلان عن هذين البعدين في العهد، الوجود الأزلي في حضن الآب ونزول الرب في التجسد، في صورة الحكمة. نجد في كتب العهد القديم الحكمية بعض النصوص التي تتغنى بدور الحكمة الأزلية كانت قبل خلق العالم. بهذا المعنى تُقرأ نصوص مثل هذا المقطع من المزمور 90: “قبل أن وُلدت الجبال وأسست الأرض والمسكونة، من الأزل وإلى الأبد، أنت الله” (آية 2)؛ أو مقاطع مثل ذلك الذي يتحدث عن الحكمة الخالقة: “الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طرقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء؛ مِنَ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض” (أم 8، 22 – 23). كما ويلفت النظر مديح الحكمة الذي يتضمنه كتاب الحكمة: “إِنَّها تَمتَدُّ بِقوّةٍ مِن أَقْصى العالَمِ إِلى أَقصاه وتُدَبّر كُل شيء لِلفائِدَة” (حك 8، 1).
إن النصوص الحكمية عينها التي تتحدث عن وجود الحكمة الأزلي، تتحدث أيضًا عن نزولها، عن انحناء هذه الحكمة، التي أقامت خيمتها بين البشر. وهكذا نسمع صدى كلمات إنجيل يوحنا الذي يتحدث عن خيمة جسد الرب. لقد قامت بخلق خيمة في العهد القديم: والإشارة هنا إلى الهيكل، إلى العبادة بحسب التوراة؛ ولكن من وجهة نظر العهد الجديد يمكننا أن نفهم أن هذا كان فقط تصويرًا مسبقًا لخيمة تحمل حقيقة ومعنىً أعمق: خيمة جسد المسيح. ونرى في كتب العهد القديم أن انحناء الحكمة هذا، ونزولها في الجسد يتضمن أيضًا إمكانية رفضها.
إن القديس بولس، في توسيعه لتعليمه الكريستولوجي، يعود إلى هذا المنظار الحكمي: يتعرف في يسوع على الحكمة الأزلية القائمة أبدًا، الحكمة التي تنحدر والتي تخلق لذاتها خيمة في ما بيننا؛ وبهذا الشكل يستطيع أن يصف المسيح، كـ “قوة وحكمة الله”، ويستطيع أن يقول أن المسيح قد صار لنا “حكمة من لدن الله، وبرًا، وتقديسًا وفداء” (1 كور 1، 24 . 30). بالشكل عينه يوضح بولس أن المسيح، مثل الحكمة، يمكن رفضه، خصوصًا من قبل سلاطين هذا العالم (راجع 1 كور 2، 6 – 9)، فتتولد في مشروع الله مفارقة هي الصليب الذي سيضحي سبيل خلاص لكل الجنس البشري.
نلاقي تطورًا آخرًا في هذه الدورة الحكمية التي ترى انحدار الحكمة لكي يتم تمجيدها في ما بعد بالرغم من الرفض، في النشيد الشهير الموجود في الرسالة إلى أهل فيليبي (راجع 2، 6 – 11). نحن بصدد واحد من أسمى نصوص العهد الجديد. يتفق معظم المفسرين على أن هذا المقطع يحمل نصًا تمت صياغته في زمن سبق نص الرسالة إلى أهل فيليبي. وهذا أمر بالغ الأهمية، لأنه يعني أن اليهود المتنصرين قبل بولس كانوا يؤمنون بألوهية يسوع. بكلمات أخرى، ألوهية المسيح ليست ابتكارًا هيلينيًا نشأ بعد زمن
طويل من حياة يسوع الأرضية، وليس اختراعًا تناسى إنسانيته وأعلنه إلهًا؛ نرى بالواقع أن اليهودية-النصرانية الأولى كانت تؤمن بألوهية يسوع، لا بل يمكننا أن نقول أن الرسل أنفسهم خلال حياة معلمهم فهموا أنه كان ابن الله، كما قال القديس بطرس في قيصرية فيليبس: “أنت المسيح، ابن الله الحي” (مت 16، 16).
ولكن لنعد إلى نشيد الرسالة إلى أهل فيليبي. تتبلور تركيبة هذا النص في 3 مقاطع تبين اللحظات الأساسية في المسيرة التي قام بها المسيح. يتم التعبير عن وجوده الأزلي في الكلمات التالية: “رغم أنه كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله امتيازًا” (آية 6)؛ ويلي ذلك انحناء ابن الله الإرادي: “أخلى نفسه آخذًا صورة عبد” (آية 7)، وصولاً إلى “واضع نفسه وصار مطيعًا حتى الموت، موت الصليب” (آية 8). المقطع الثالث يعلن جواب الآب على اتضاع الابن: “لهذا رفعه الله ووهبه الاسم الذي هو فوق كل اسم” (آية 9).
ما يلفت هنا هو التباين بين الانحدار الجذري والتمجيد الذي يليه في مجد الله. من الواضح أن هذا المقطع الثاني يختلف كليًا عن طموح آدم الذي أراد من تلقاء ذاته أن يصير الله، وهو مغاير عن تصرف بناة برج بابل الذين أرادوا من تلقاء ذاتهم أن يبنو الجسر إلى السماء فيضحوا آلهة لذواتهم. ولكن مبادرة الكبرياء هذه أدت إلى تدمير الذات: ليس هذا السبيل للوصول إلى السماء، إلى السعادة الحقة، إلى الله. طريقة تصرف ابن الله هي العكس تمامًا: لا بالكبرياء بل بالتواضع الذي هو تحقيق للحب، الحب الذي هو إلهي. مبادرة الانحناء، تواضع المسيح الجذري، الذي من خلاله يعاكس الكبرياء البشري، هو حقًا تعبير عن الحب الإلهي؛ يلي هذا التواضع الارتفاع إلى السماوات إلى حيث يجذبنا الله بحبه.
إلى جانب الرسالة إلى أهل فيليبي، هناك مواضع أخرى في الأدب البولسي حيث نجد ترابطًا بين موضوع وجود ابن الله الأزلي وموضوع نزول ابن الله إلى الأرض. هناك تعبير عن ترابط الحكمة والمسيح، مع كل ما يحمل ذلك من نتائج كونية وأنثروبولوجية، في الرسالة الأولى إلى تيموثاوس: “قد أُظهِرَ في الجَسَد وأُعلِنَ بارّاً في الرُّوح وتَراءَى لِلمَلائِكَة وبُشِّرَ به عِندَ الوَثَنِيِّين وأُومِنَ بِه في العالَم ورُفِعَ في المَجْد” (3، 16). إنطلاقًا من هذه الركائز، يمكن وصف دور المسيح كالوسيط الأوحد، على ضوء الإله الأحد في العهد القديم (راجع 1 تيم 2، 5 في ارتباطه بـ أش 43، 10 – 11؛ 44، 6). المسيح هو الجسر الحق الذي يقودنا إلى السماء، إلى الشركة مع الله.
وأخيرًا، نشير فقط إلى التطورات الأخيرة في الكريستولوجيا البولسية في الرسائل إلى الكولسيين والأفسيين.
في الأولى، يتم وصف المسيح بـ “بكر كل الخلائق” (1، 15 – 20). عبارة “بكر” تعني أن الأول بين أبناء كثيرين، الأول بين الكثير من الإخوة والأخوات، قد انحدر لكي يجذبنا ولكي يجعل منا إخوته وأخواته.
في الرسالة إلى أهل أفسس، نجد عرضًا جميلاً لمشروع الله الخلاصي، عندما يقول بولس أن الله أراد أن يجمع كل شيء في المسيح (راجع أف 1، 23). المسيح هو خلاصة كل شيء، يجمع الكل ويقودنا إلى الله. وبهذا الشكل يشركنا في حركة نزول وصعود، داعيًا إيانا إلى الاشتراك في تواضعه، أي في حبه نحو القريب، لكي نكون بهذا الشكل شركاء في مجده وفي حبه أيضًا، فنضحي بهذا الشكل شركاء في ألوهيته.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.