بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي
الجمعة، 16 أكتوبر 2009 (zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الأول من مقالة الأب فرنسوا عقل المريمي “حول العلاقة بين السياسة والكنيسة”.
* * *
تمهيد
السّياسة الحقيقيّة مسألة شريفة جدّا، والكنيسة جماعة رجاء هدفها سامٍ جدّا! فالسّياسة تتناول علاقة الإنسان بالإنسان، أمّا الكنيسة فتربط الإنسان بالله أوّلا. لكنّ ميزة السّياسة الحقيقيّة قبل كلّ شيء -وهذا ما يجعلها تتلاقى أحيانا مع الكنيسة-، هي الارتكاز على أسس خلقيّة واضحة. كما أنّ ما يهمّ الكنيسة في ذلك، هو الذّود عن مبادئ الأخلاق السّياسيّة، كحاجة أساسيّة في بناء الدّولة الحديثة. فالشّخص البشريّ هو ركن السّياسة وموضوعها وغايتها، وحرّيته من حرّيّة المجتمع المدنيّ. لذا على السّياسة بادئ ذي بدء، أن تبحث بصورة دائمة عن معناها الحقيقيّ أي “الفنّ الصّعب والنّبيل” الذي تحدّثت عنه بإسهاب الفلسفة اليونانيّة، لا أن تكون كما هي اليوم في الكثير من دول العالم، “فنّ الخداع” على حدّ قول فولتير Voltaire إذ “تجد لها ميدانا فسيحا في العقول الضّعيفة” ( راجع، جهاد نعمان، حقوق الإنسان في العالم العربيّ، جونيه 1992، ص. 87). غير أنّ ذلك يحتاج إلى تحضير دؤوب على مستوى التّربية المدنيّة والسّياسيّة.
كان لا بُدّ لنا في معالجتنا هذا الموضوع، من الاستناد بصورة خاصّة، على الفصل الرّابع من القسم الثّاني من وثيقة “فرح ورجاء”، التي هي بمثابة دستور رعويّ يتمحور حول الكنيسة في عالم اليوم، وهو -إن جاز التّعبير-، مختصَر مفيد لأعمال المجمع الفاتيكانيّ الثّاني وتوجّهاته، إذ يعكس إرادة الكنيسة بالانفتاح والحوار مع كلّ متطلّبات العالم المعاصر، وتعليمها الاجتماعيّ وموقفها من الجماعة السّياسيّة وكيفيّة التّعامل معها.
I. الجماعة السّياسيّة
ليست الدّولة في المفهوم الحديث، حكراً على الوالي كما كانت في الأزمنة الخوالي؛ ولم يعد المَلِك هو نفسه الدّولة، كما قال ذات يوم لويس الرّابع عشر المعروف بِمَلك الشّمس “Roi Soleil”: “الدّولة هي أنا” “L’Etat c’est moi”. بل الدّولة اليوم، هي الحكّام والمواطنون، الذين يؤلّفون معا ما ندعوه بالجماعة السّياسيّة التي ليست هي بمجموعة من القادة أو السّياسيّين وحسب، بل كلّ من يعيش على أرض الوطن وينتمي إليه؛ والمواطنون أنفسهم هم الذين يجب أن يحدّدوا نظام الحكم السّياسيّ وأن يختاروا قادتهم (ك ع 74) ( سوف نستعمل في سياق البحث المصطلح (ك ع) للدّلالة على وثيقة فرح ورجاء)، في فلسفة الدّولة المدنيّة المعاصرة، وذلك لسبب بسيط هو أنّ الدّيموقراطيّة هي حكم الشّعب.
وعليه، تتألّف الجماعة السّياسيّة من الحكّام أي السّلطة السّياسيّة ومن المواطنين (ك ع 76)؛ وانطلاقا من تحديد السّياسة الحقيقيّة بالفنّ النّبيل، نجد أنّ هذا الفنّ لا تمكن ممارسته إلاّ وسط جماعة سياسيّة تكون بمثابة واقع طبيعيّ جوهريّ للنّاس، غايتها الأولى تحقيق الخير العام، عبر احترام الحرّيّة وتنمية البعد الدّينيّ في المجتمع، لأنّ قيمة الشّخص البشريّ، تبقى دائما فوق كلّ اعتبار كنقطة انطلاق جوهريّة، ومن ثمّ قيمة الجماعة البشريّة برمّتها (Cf. G. Campanini, Costituzione pastorale sulla Chiesa nel mondo contemporaneo Gaudium et Spes, Casa Monferrato 1986, p. 169).
II. السّلطة السّياسيّة
تدعى أيضا “الحكم”، هي عنصر تأسيسيّ وتنظيميّ في الدّولة؛ ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى موقف الكنيسة منها. مصدر السّلطة السّياسيّة من حيث المبدأ، بالنّسبة إلى الكنيسة هو الله. “فلا سلطة إلاّ من الله، والسّلطات القائمة هي من تدبير الله” (روما 1:13)، ولكن هذا لا يعني أنّه يوافق على أداء جميع القيّمين على مقدّرات الحكم في العالم. فالله لا يرضى إلاّ على الحاكم الذي يرضي ضميره أي صوت الله فيه، والذي يحكم بعدل وتفان مؤثرا الخير العام على مصالحه الشّخصيّة.
إنّها ضرورة مطلقة للجماعة السّياسيّة؛ لكنّ ممارستها بنُبل لا يمكن أن تتمّ خارج إطار الشّريعة الأدبيّة، في سبيل تحقيق الخير العام، حيث الأفراد والعائلات والجمعيّات والجماعات يستطيعون العيش بسلام واستقرار وكرامة، عبر تفاعلهم الإيجابيّ في مشاركتهم بشؤون الدّولة، كلّ حسب دوره وحجمه وموقعه؛ لأنّ الكلّ معنيّ في مشروع سير رَكْبِ الدّولة نحو التّقدم والنّموّ والازدهار.
فالسّلطة الحقيقيّة هي “خادمة لله في سبيل الخير” (روما 4:13)؛ وهي “تكرّس” لخدمة الوطن ولتحقيق مصالحه العامّة من قِبل المواطنين الذين يشاركون فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ ومن قِبل الحكّام الذين يتولّون السّلطة بصورة مباشرة، بعيدا عن كلّ مطمع في مركز أو رفعة وحبّ ظهور، وانتهاز الفرص السّانحة لكسب المال المشروع أو غير المشروع (ك ع 75). لكنّ المسؤوليّة العظمى تقع على عاتق أهل السّلطة أنفسهم، فإذا تجاوزوا صلاحيّاتهم وظلموا مواطنيهم، لا يمكن لأحد حينئذ أن يمنع المواطنين من الدّفاع عن أنفسهم وعن حقوقهم بالطّرق المشروعة، لأنّ أيّ خلل في إدارة شؤون الدّولة هو خطر على الخير العامّ في الوطن. وقد صف البابا السّابق يوحنّا بولس الثّاني، الرّجلَ السّياسيّ المثاليّ، بذاك الذي يعمل على نحو مستقيم، بتكامل خلقيّ والتزام حيويّ ضدّ كلّ ما هو
مناف للعدالة؛ فالنّظام الذي تدعو إليه كنيسة المسيح هو نظام حبّ وعدل (Cf. Avvenire, 01, 05, 2003, p.1).
أمّا الخير العام، بمفهومه الحصريّ، فهو مبدأ خلقيّ سياسيّ يحدّد الشّروط الرّوحيّة والمادّيّة التي يقوم عليها المجتمع في سبيل نموّ أفراده واتّساع أفق الحرّيّة فيه، من خلال الاحترام الواجب للشّخص البشريّ كقيمة أساسيّة لتحقيق العيش بسلام مع الآخرين. بدون أن ننسى أنّ المسيحيّ يؤمن بالخير العام الحقيقيّ الذي هو ملكوت الله. ناهيك عن أنّ طبيعة الجماعة السّياسيّة وهدفها يتّجهان نحو تحقيق الخير العام بمفهومه المدنيّ (Cf. G. F. Svidercoschi, Storia del Concilio, Milano 1967, P. 645).
III. أنماط الحكم السّياسيّ
من المعروف في حقل القانون العام، أنّ شكل النّظام السّياسيّ للدّولة هو عبارة عن مجموعة من المبادئ التي يستوحي منها الدّستور أحكامه، في سبيل تنظيم علاقة الدّولة بمواطنيها.
وفي هذا السّياق، تبدو اليوم عقيمة أو قل محدودة الأفق، تلك الأنظمة التّوتاليتاريّة التي يستأثر فيها حزب واحد بزمام الحكم، أو ينفرد بالتّصرّف المطلق بها من يُسمّى بالرّئيس “الموهوب” فيقوّض الحرّيّات وحقّ الاختيار الحرّ عند المواطنين بحكمه الأمنيّ أو البوليسّي أو الدّكتاتوريّ الذي ينتهك حقوق الأشخاص والمجتمع. لذلك، تشجب الكنيسة كلّ نظام دكتاتوريّ (ك ع 75)؛ لكنّها لا تؤيّد النّظام الدّيموقراطيّ بصراحة أو بصورة مباشرة في وثيقة “فرح ورجاء”، إذ لم تأت هذه الأخيرة على ذكره، لكنّها تفضّل ضمنا جميع مقوّماته، برفضها سائر الأنظمة التي تتنكّر للحرّيّات المدنيّة والدّينيّة، ممّا يثبت أنّ الكنيسة لا تهتّم فقط بحّريّتها الخاصّة أو بالحرّيّة الدّينيّة وحريّة الضّمير فحسب، بل بحريّة البشر جميعهم.
* * *
الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: “شِعْر وْصَلا”، صدر عام 2001، و”أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة”، صدر عام 2007.