إلى إخوتي الكهنة في سنة الكهنة

المطران ابراهيم مخايل ابراهيم

Share this Entry

موريال، الجمعة 11 ديسمبر 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من رسالة المطران ابراهيم مخايل ابراهيم، رئيس أبرشية موريال للروم الكاثوليك في كندا.

* * *

صرت كلا للكل

إنّ نجاح الكاهن في رسالته يتطلّب منه انفتاحًا على من أوكِلَت إليه

عنايتهم وتعاونًا معهم، كما يتطلّب منه انضباطًا سلوكيًا وتهذيبًا لشخصيّته وتشذيبًا

لكلّ ما يعيق هذا النجاح؛ وإلاّ، فهو معرَّض لأن ينقاد لطبيعته البشريّة التي هي ميّالة

إلى الراحة والرفاهية، أو مع يمكننا أن نسميه “دائرة الراحة”. و”دائرة الراحة” هذه

تختلف من كاهن إلى آخر، كأن يُفضِّل فئة على فئة أكانت عمريَّة أو حزبيّة أو اجتماعيّة

أو مناطقيّة… ويترك أخرى؛ وفي هذا المجال، قد يلعب أبناء الرعيّة، أو بعض منهم،

لاعتبارات مختلفة، دورًا سيِّئًا، فيساهمون في فشل الكاهن، وبالتالي في انقسام الرعيّة

و ضياعها؛  أو أن يقوم بالحدّ الأدنى من عمله الرعويّ والرسوليّ، ليركن إلى حياته

الشخصيّة، وكأنّما يترك الرعيّة من غير راع.  وفي الرعايا الكبيرة، حيث يخدم عدّة كهنة،

وحيث الحاجة ماسّة إلى التعاون والتنسيق فيما بينهم، وإلى ما ذكرت آنفًا من انضباط في

السلوك ومن تهذيب للشخصيّة وتشذيب لها، قد يظهر الخلل بسرعة إذا لم ينتبه الكهنة إلى

هذه الأمور، فيدخل الحسد فيما بينهم وكذلك الانقسامات؛ وهنا قد يلعب ايضًا بعض أبناء

الرعيّة ، وبكلّ أسف، دورًا سلبيًّا، لمآرب شخصيّة؛ ولو كانوا حقًّا مؤمنين صالحين،

لأمكنهم، بالعكس، أن يلعبوا دورًا إيجابيًّا. وفي هذا الإطار أذكر بكثير من الأسى ما

شاهدته بأُم العين في حضوري لأحد الاحتفالات الرعويّة، حينما كان يقدِّم عريف الاحتفال

كهنة الرعيّة كيف كان التصفيق لكلّ واحد منهم يأتي من جهة دون سواها من نواحي القاعة

المترامية الأطراف.

مثل السيِّد المسيح ونعمته هما اللذان يساعداننا على تخطّي الذات وعدم الركون إلى

“دائرة الراحة” وإلى الانغلاق، وعلى الانفتاح والتعاون، وعلى تهذيب الشخصيّة وتشذيبها.

لم يكن للمسيح “دائرة راحة”.  راحته كانت، مذ دخل مسرح التاريخ، في أن يُتمَّ مشيئة

أبيه السماويّ الذي أرسله، أن يكون “كلاًّ للكلّ”: للخاطىء وللصالح، للغني وللفقير،

للعبد وللحر، لليهودي وللوثني، للرجل وللمرأة، للكبار وللصغار، لمعلمي الشريعة

ولمخالفيها، لمحبيه ولصالبيه، لمواطنيه وللغرباء. لقد شمل الجميع بشعاعات محبّته

الإلهيّة.

ألكاهن خادم

عندما يتّبع الكاهن مثل المسيح الخادم يكسر جدران “دائرة راحته” منطلقا

نحو من يحتاجه مُدركا أن مبدأ الخدمة هو ما يميّز الكاهن عن طالبي الأمجاد. فالمسيح

القائد خدم الناس لأن به الله أراد أن يخلّصنا. قبله كان الانسان عبدا لله وبه صار الله

يسألنا:”ماذا تريدني أن أفعل لك؟” (متى 20/32). هل تريد بصرك؟ أم تريد أن تمشي؟ هل تريد

غفران الخطايا؟ أم تريدني أن أكثّر لك خبزك؟ هل تريدين أن أقيم أبنك من بين الأموات؟ أم

تريدني أن أطهرك من برصك؟ وفوق كل شيء، هل تريدني أن أموت من أجلك؟؟؟ كل هذا صار لنا

لأنه أحبنا فخدمنا. والكاهن على مثال معلمه الإلهي مدعو لأن يسأل: أتريدني أن أصلي لك؟

أم تريدني أن أستمع شكواك؟ أتريدني أن أزورك في بيتك؟ أم تريدني أن أعزي انكسارك؟

أتريدني أن أنقل لك سلام ومحبة المسيح؟ أم تريدني أن أحمل المناولة والأسرار إلى مرضاك؟

أتريدني أن أتألم معك وأن أفرح معك وأن أبشرك البشرى الحسنة؟ أتريدني أن أموت من أجلك؟

كل هذا ممكن إذا أحب الكاهن النفوس فخدمها من أجل المسيح. والخدمة لا تقاس بعظمتها بل

بمقدار المحبة التي وُضعت فيها. أعرف أن كاهنا زار يوما مريضة مشرفة عل الموت وبعد أن

ناولها ومشحها سألها إذا كانت تُريد خدمة أخرى فأجابته بأنها تُريد أن تسمع بعض

الترانيم الدينية التي تحب وأنه يستحيل عليها ذلك في المستشفى، فأسرع الكاهن وأحضر بعض

التسجيلات وأشترى لها آلة تسجيل صغيرة من ماله الخاص وقدّمها لها. لقد كان فرحها عظيما.

وبعد أيام قليلة ماتت تلك المرأة لكن فرحها لم يمت وقد ورثه ذلك الكاهن الشاب الذي

خدمها لأنه أستطاع أولا أن يحبها.

 ألكاهن محبة

إذا كان الله محبة فإن الإنسان أيضا محبة لأنه على صورة الله خُلق. ألله

يبقى دوما محبة، إنه المحبة الخالدة. أما الإنسان المستسلم لضعفه بالخطيئة فإنه صار

مزيجا من محبة وضغينة، تزيد فيه الواحدة أو تقلّ على قدر قربه من الله أو بعده عنه.

فمسيرة المؤمن هي من ظلمة إلى نور ومن كراهية إلى محبة. ألكاهن هو قائد لشعبه في هذه

المسيرة الطويلة وهو في طليعة من اختاروا أن يرمموا صورة المحبة فيهم بقوة الارادة

وفيض النعمة. فالكاهن الذي لا يحب لا يمكنه أن يزرع الحب لأن حبه لذاته يثنيه عن محبة

الآخرين. أما الكاهن الذي يؤمن بقوة الحب فإنه يبذل كل ما بوسعه لعيش وصية الحب. وهذا

البذل نجتهد فيه لمصالحة دافعين متصارعين فينا:  دافع حب الذات ودافع حب الآخر. فحب

الذات يدفعنا نحو ذاتنا لنكون من أجل ذاتنا ونوجد لذاتنا. إنها نزعة لا محدودة فينا

نحو الأنا وحريتها واستقلاليتها. أما حب الآخر فهو قوة عطاء الذات وبذلها وإشراكها في

حياة الآخر وخيره الأسمى. وهذان الدافعان
العميقان فينا يحتاجان إلى قوة روحية قادرة

أن تميّز بينهما حتى لا نقع في فخ سوء التمييز الذي وقع فيه الفريسي المطمئن إلى ذاته

في مثل الفريسي والعشّار. (لوقا 18/11-14)   عندما يتصالح هذان الدافعان فينا ندرك أن

معرفتنا لذاتنا ولعلاقتها بمحيطها توصلنا إلى الله وأن مسيرتنا الإنسانية والروحية  قد

تقدمت جدا. هذا ما يمكن أن نسميه “ألنمو الروحي” أو التطور والازدهار في مسيرة الروح

نحو مبدعها. وغياب هذا النمو عن حياة الكاهن يعني تلقائيا غياب الفرح والأمان أيضا عن

حياته وحلول اليأس والإحباط مكانهما. وبدل “نمو الروح” تحل “محنة الروح” التي تسبب

طلاقا بين الكاهن ونموه الروحي وتزيد من أغلال “الأنا” وسجن الذات. وحدها محبة الله

ومحبة القريب تستطيع أن تحرر الكاهن، وكل أنسان طبعا، من ذاته كي يستطيع أن يكرّس ذاته

من أجل الآخرين لأن المحبة لا تُثمر إلاّ محبة. وعبثا نفتش عن هذه المحبة خارج ذواتنا

لأن الذات التي تأسرنا هي نفس تلك الذات التي تحررنا، فمحبة الله مغروسة في أعماقنا

لأننا على صورته مفطورون والله محبة.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير