بقلم الأب هاني باخوم
روما، الثلاثاء 15 ديسمبر 2009 (Zenit.org). - أعلن قداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر بدء السّنة الكهنوتية من 19 يونيو 2009 الى 19 يونيو 2010. وهدفها تنشيط الوعد الدّاخلي لكلّ كاهن وتجديده، من اجل اعلان شهادة الانجيل للعالم المعاصر.
فرغبة البابا، في إقامة هذه السّنة الكهنوتية، هي لتشجيعنا نحن الكهنة واعطائنا فرصة وامكانية لتجديد ذلك الوعد الذي قطعناه يوم سيامتنا، باعلان انجيل ملكوته لكلّ البشر، وخدمة الاسرار المقدّسة، والمحافظة على حياة بلا لوم....ما استوقفني هو ان تلك الرّغبة، رغبة البابا، لتشجيع وتجديد الوعد الكهنوتي، لم تنشأ اليوم، بل منذ تأسّس هذا السّر المقدس. يقول القديس بولس متوجهاً بكلامه إلى تلميذه طيموتاوس، والذي يدعوه ايضاً ابني الحبيب:"أُنبهك على ان تذكّي هبة الله التي فيك بوضع يدي" (2 طيم 1: 6).
بولس يَحثُّ طيموتاوس ان يُذكّي تلك الهبة، تلك النّعمة التي وضعت فيه بوضع يديه هو، وايدي شيوخ الجماعة ( 1طيم 4: 14)، والتي هي السّيامة المقدسة. فالسّيامة المقدسة هي نعمة، وعلى طيموتاوس ان يُذكّيها.
فعل "يُذكّي" هو التّرجمة للفعل اليوناني(anazopurew) anazwpurew ومعناه: اشعال النّار وتحميتها عندما تبدأ بالخمود وتكاد تنطفئ. فقبل ان تتحول و تصبح رماداً، يتم اشعالها من جديد. وكأن بولس يعلم ولا يتشكك، انّه من الطّبيعي ان تشتعل تلك النّار وبعد فترة تنخفض شُعلتها، تكاد تخمد وتنطفئ، لذا يقول "أنبهك"، والكلمة الاصلية تعني أذكرك؛ أذكرك ان عليك ان تُعيد إشعال تلك النّعمة التي تلقيتها؛ نعمة الكهنوت، نعمة الرّسالة عامّةً.
نفس النّعمة التي تلقاها إرميا النّبي، لكن بسبب الاضطهادات وصعوبة رسالته، لما حوله من عنف ودمار، يقرر ان لا يذكر تلك النّعمة من بعد، وان لا يتحدث باسم الرّبّ ثانية (ار 20: 9). إرميا في صراع وتجربة كبيرة؛ يريد ان يترك رسالته ويعود إلى حياته السّابقة، حياة عادية كأي انسان آخر بلا صعوبات، بلا مشاكل تحيطه بسبب تلك النّعمة وتلك الرّسالة، كما يعتقد. وهل من انسانٍ يحيا على الارض بلا صعوبات او مشاكل؟ في التّجربة، يعتقد الانسان انّه المتألّم الوحيد على الأرض، فيظنّ انّه اذا غير من حالته ووضعه، وترك الرّسالة مثلاً، وعاد الى الحياة العادية سوف يتخلص من آلامه. فالحلّ اذاً في التّغيير، وفي ان يحصل على ما ليس لديه الآن، فيتخلّص من آلامه؛ هذا ما يحاول المجرب اقناعنا به وقت الأزمة، حين تبدأ شعلة تلك النّعمة بالخمود، يُظهر لنا شعلات اخرى وهمية قابلة للاشتعال.
إرميا يدخل في الصّراع لكنّه لا يسقط، لأنّه يشعر بدعوة الرّبّ في قلبه "كنارٍ مُحرقة حُبست في عظامي، فأجهدني احتمالها ولم أقوَ على ذلك" (ار 20: 9) يقول النبي.
دعوة الرّبّ واعلان اسمه، هي نعمة. والنّعمة ليست شيئاً نظرياّ او فكرياّ.
في اللّغة العربية، كلمة "نعمة" تعني الشّيء الذي يُعطى لشخص ما، ليس من المفروض ان يُعطى له، او بالاحرى هو لا يستحقه. ولكن بالرّغم من عدم استحقاقه لهذا الشّيء، المُنعِم ينعم عليه به. هذا المعنى رائع لكلمة نعمةً وهو يؤكد ما يقوله القديس بولس لطيموتاوس:" الله دعانا لدعوة مقدسة، لا بالنّظر لأعمالنا، بل وفقاً لسابق تدبيره والنّعمة التي وهبت لنا في المسيح يسوع منذ الأزل"(2 طيم 1: 9).
مفهوم "النّعمة" يتخطى ايضاً ما سبق، فالنّعمة في اللاهوت، اي "النّعمة الالهية" لا تعني فقط شيئاً مادياً او ملموساً، لكنها حياة، مبدأ للحياة، مشاركة في حياة الله ذاتها، قوة تدفع وتحقق ما تطلبه. فهي قوة وقدرة، نشاط وفاعلية، لا تنتهي عندما تفي بغرضها او تصل لهدفها، بل بالأحرى تشتعل اكثر، ففيها الفعل يتّحد بالهدف نفسه، ويُشعل كلّ منهما الآخر، وتبقى النّعمة دائماً اكبر واكثر.
تلك هي النّعمة حسب المفهوم اللاهوتي، ومنها نفهم نعمة الكهنوت؛ فالرّبّ يختار اشخاصاً لا بفضل اعمالهم واستحقاقاتهم، جدارتهم وامكانياتهم، بل كما يقول بولس "بفضل سابق تدبيره". يختارهم ويمنحهم تلك النّعمة والتي هي للأبد، لا تمحى ابداً. حتّى وان ترك الكاهن رسالته، فتلك النّعمة لا تزول عنه، وإن مُنع من ممارسة الاسرار لسبب او لآخر، تلك النعمة تبقى، لان نعمة الكهنوت كنعمة العماد، ترتبط بالشّخص نفسه، ولأنّها نعمة فلا ترتبط باستحقاقه وبما يفعله. هذا سرّ كبير وعميق، فالله لا يعود عن عطاياه ولا يسحبها إلى الوراء. الرّب يعطي دائماً الفرصة والامكانية لمن ابتعد او لمن يقرر الآن كما فعل ارميا ان يرجع الى الوراء، ان يشعر كما إرميا، بتلك النعمة من جديد باعضائه وبقلبه. نعمة تشتعل وتدعوه ان لا يخاف، ان لا يتشكك من نفسه ومن خطاياه؛ فالله ما اختاره من اجل اعماله الحسنة، بل "بفضل سابق تدبيره"، لذا يعود الله ويجدد الدّعوة، وإن كانت حياته واعماله لا تستحق تلك الدّعوة الآن، فهي نعمة، من يقبلها او يعود فيقبلها من جديد تعطيه امكانية ان يشارك الله في حياته، وتكون اهتماماته هي اهتمامات الله، اي خلاص البشر عن طريق اعلان البشارة.
ان يكون الكهنوت نعمة، هو خبر مفرح لمن بدأت تنطفىء فيه تلك الشّعلة. فليسمع صوت بولس الرّسول الذي يقول :"أُنبهك على ان تذكّي هبة الله التي فيك بوضع يدي" (2 طيم 1: 6).
سنة كهنوتية مباركة.