مساؤكِ خيرٌ ياسيدتي

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

على هامش ختام شهر إكرام أمنا مريم العذراء  

 

بقلم المونسنيور بيوس قاشا

 

             

 روما، الخميس 03 يونيو 2010 (Zenit.org) –   رسالة من تلميذ في مدرسة العذراء ملكة الحقيقة والرجاء بمناسبة ختام الشهر المريمي:

     سلام… أُعانقكِ وأنا كلي لكِ… ومساءُكِ خيرٌ يا سيدتي

وقبل أن أستسلم في يدي خالقي إبنكِ, أستمطرُ حبَّ أمومتكِ، وأهديكِ ضعفي. وإن كانت الدموع والدماء قد أفسدتْ حقيقتَه, مع هذا فأنا مؤمنٌ إنَّ النظر بعيني الزمن حقيقةٌ بائسةٌ ومزريةٌ, فالحقيقة لا تكمن إلا بِمَن مَلَكَ عيني الله وآل السماء… وبعد،

عفواً, عفواً ياسيدة الألم, كم كنتُ أتمنى أن أعزيكِ, بسبب ما أرتكبتْه الخطيئة، وما عمله السيف الذي جاز في قلبكِ، حسب نبوءة الكتاب, ولكِ ضعفي البشري جعلني أشكو حالي, منطرحاً أمام قدميكِ، ومحدقاً نحو أنوار وجهكِ وضياء بهاءكِ, لتنيري درب الحياة، وتقلعي أشواك المسيرة من أسطر الزمن والوطن والقلوب, أقولها بكل تواضع وبلا استحقاق. وأعترف في هذه الساعة بأنني رجل ضعيف، لا أستحق إلا عونكِ ومحبتكِ لأتصفح صفحة من صفحات الحقيقة والرجاء. كما أعترف إنني رجلٌ لا أستحق أن أكون حتى تحت أقدامكِ، وتلميذاً في مدرستكِ, كوني ضعيف الأيمان ولا أحملُ رجاءَ الحياة… فالزمن قد أبعدني من سجلات أحبائكِ، وسفر الحياة قد ضاع مني بل حتى صاحب السفر قد رحل، وليس هو في الوجود، وبرحيله لعن مسيرة الحياة كون آدم قد أطاع حواء، فكانت الهزيمة أن خُلعت منه نعمةُ السماء, وكنتِ أنتِ رجاء المائتين، فكتبتِ الحياة للأبرياء الذين عَنْوَنوا قصائدهم تحت ظل أجنحة الخلاص, وأصبحوا في عِداد الجالسين على كراسي أسباط إسرائيل, لأنهم أصدقاءُ العريس.

أقول بدءاً، ليرحم الرب شهداءَنا، وليشفِ مرضانا، ويمنحنا النعم والبركات، لنواصل مسيرة الأيمان بين مسالك الحياة الوعرة وفي هذا البلد, بلدِ الشهادة والإستشهاد, حيث يُصلَب الحق على خشبة العار.

إننا في العراق مَدينون لكِ، لأننا ندرك جيداً أن العراق الجريح هو في قلبكِ, ولا زلتِ حتى الساعة, تشفعين وتحفظين مَن يناجيكِ، وهذا ما حصل يوم الثاني من شهركِ المكرَّم، يوم سترتِ طلابنا تحت كنف حمايتكِ، وظل جلبابكِ في مدينتكِ _ نينوى العظيمة _ التي كنتِ لها سوراً في السنين السالفة _ الطاهرة المقدسة _ فكنتِ لهم أعجوبةً بل آية من السماء. ووفاءً لحبكِ عُنْوِنَ ذاك الأحد بـ “أحد أعجوبة العذراء”… في بخديدا, يا سيدتي. 

إنني لعلى علم يقين وحقيقة أكيدة, أنكِ تحملين طابع الرجاء والوفاء إلى أبناء جلدتكِ. ومعكِ نحجّ إلى حيث أنتِ. فاحملي اسم بلدي، فبلدي اليوم جريح الحياة، وفريسة للإرهاب، وآلة للإحتلال. فالمصالح فيه أنانية، إنفرادية… إنه يُصلَب كل يوم على خشبة العار، فيه تُنتهك حرية أبناء الأرض دون أي رادع، وأرضنا قد إرتوت من دماء الأبرياء… ما ذنبهم؟، هل لكونهم مخلصين لتربتهم ولعقيدتهم ولعلمهم… وبيوتنا قد فرغت من أبنائها، فإبراهيم قد رحل ولن يعود, وراحيل تبكي على بنيها ولم يَعُد أبناؤها في الوجود (إر 15:31), فهم اليوم في المهجر، ذاقوا العذاب بل أمرّه، حتى حطّت بهم الرحال إلى حيث هم قابعون، وتراهم واقفون على أبواب الإقامة والطرقات من أجل لفة وعلبة، ونسوا حتى رائحة ترابهم المقدس، والمجبول بدماء الشهداء والقديسين والطلبة.

هل تعلمين سيدتي أن شيوخنا وعجائزنا يذرفون كل يوم دموع الألم والكآبة والحسرة على فقدان أبنائهم برحيلهم، ولا يبالي بهم أحد من أبنائهم، ولا أعلم إن كانت الوصية الرابعة قد أصبحت في مجاهل التاريخ وسلاّت الإهمال المخيف!!، فحتى الأقربون من ابنكِ هم بعيدون عنه بسبب غاياتهم ومصالحهم.

وهاهو ذا يعود إلينا قائين ثانية، ولكن هذه المرة متلبّساً بحللٍ بهيّة في إختراعات دنيوية، بأداة ألكترونية مدمِّرة، لا بل مميتة، إذ لم يبقَ هناك مَن يقودهم إلى حيث الحقيقة… لقد تفكّكت عوائلنا بسبب المال والهجرة والعقيدة، جمعيات عديدة بل مئات دخلت أرضنا بعد الإحتلال, فتأصّلت، وأصبح الأصليون فقراء الروح لإهمالهم حتى إيمانهم، فلا إنطلاقة ولا تجديد. كما بدأ أولادنا ينكرون حتى قلوب أجدادهم، وحقيقة عقائدهم، ولا أحد من كبار القوم له شأن في ذلك. وأخذوا يقولون عنا أنَّ مسيحنا قد هرمَ، وأنَّ إنجيلنا قد تراكم عليه الغبار، وأصبح الكثير منهم يبنون لهم كنائس خاصة بدل كنيسة إبنكِ الحقيقية، والتي أصبحت غريبة عنّا وعنهم.

لقد إبتعدنا كثيراً عن مسار الحياة في الوحدة والشراكة في الكنيسة الواحدة، وفي وحدة الصلاة, نحن أبناء رب واحد، وتاريخ الحياة شاهد بالتواءات المحبة الكبريائية، التخلفية، المصلحية، والأنانية، بسبب ثرثرة الواجهات وألعوبة الخفيات.

إبتعد الكبار والصغار، العبيد والمسلَّطون، عن عيش حقيقة الإيمان. فقد ملك المال في القلوب، وتسلّطت الكبرياء طيراً كاسراً، والمؤمنون الأبرياء كُتب عليهم الزوال شاءوا أم أبوا. فلا إرادة تقوّي عزيمتهم، ولا تشجيع يثبّتهم في أرضهم وفي مسيرة إيمانهم، وكأننا نعيش زمن الرسل ساعة تركوا المسيح وحيداً أمام بيلاطس بعدما ألقي القبض عليه (8:18)، بل إزدادوا يجبروننا على أن نضع البخور أمام آلهة كاذبة، نحملها كل يوم على أفواهنا كصلاة فجر رحل عنا ضياءه… كذب، غش، خداع، تمليق، أنانيات… وهلمّ جرّاً، كما سطّره قاموس, الذي  ليس البسيط فقط بل حتى منجد المعاني.

فقد إظلم
ّ السراج وزادت العثرات، وأتعبتنا الحرب بل الحروب، لم يكن لنا فيها لا حول ولا قوة… كنا كغنمٍ ساقونا إلى الذبح, ولا زلنا حتى اليوم. كما أكل الحصار جسمنا، وهل تعلمين يا سيدتي إننا ننتظر لحدّ اليوم أبناءنا وإخوتنا، الذين غابوا كأسرى في الحروب ولم يعودوا, وحتى رفاتهم لم تُودع في حبات تراب وطنهم, حيث ولدوا وترعرعوا.

          لقد أصبح حديثُنا وقدَرُنا إطلاقةً صامتة، وعبوةً لاصقة، ومفخخةً مرهبة، وحالنا اليوم ذعر وفزع وخوف في النفوس. وكنائسنا بدأت تفرغ من روّادها بسببها، وقليلون هم الذين يرفعون أدعيتهم… فلا ساعة تجمعنا لنبتهل إلى ربّ السماء فنقول:”أبانا الذي في السماوات”، وكأن الله غاضب على هذا الشعب! أستغفر ربي؟… فإننا نحن الذين إبتعدنا عنه كما حصل لشعب إسرائيل في صحراء سيناء، ولا نبالي إلا بأنفسنا. فإلهنا اليوم هو صنم سارة في رحيلها، ومَنّ الصحراء وسلواها. فالجوع الروحي ظاهر في مسيرة قلوبنا، وملأنا بطوننا من ترّهات الدنيا، وأفرغنا حواصل البؤساء وسجّلنا غِناهم بأسمائنا واجباً ملكوتياً، وأصبحنا نثرثر كثيراً، ونتّهم إخوتنا في المسيرة لأجل غايات وأنانيات، كما يسعى قوم منا إلى بيع بيوتهم للغرباء، وهم يملكون هنا وهناك, وتركوا أحبّتهم بلا مسكن ليس إلا من أجل ورقة خضراء وراحة بال, فابتعدنا… نعم، إبتعدنا، ولا زلنا في هذه المسيرة المؤلمة حتى الساعة.

هذه حقيقة من حقائق عديدة، عشناها ولا زلنا نعيشها. فالإحتلال كان ولا زال نيراً ثقيلاً على أكتافنا، حملناه دون إرادتنا، ولا زلنا نئنّ تحت ثقله. فهل من مخلّص إلا أنتِ يا أمّي، يا سيدتي، يا مريم؟… وهل من معين إلا شفاعتكِ وصلاتكِ وبركتكِ يا سيدة لورد وفاتيما وكوادالوبي؟… نعم أصبحنا اليوم ذبيحة إبراهيم، والعارف بالحقيقة يخاف أن يقولها مُدَبلِساً مصالِحَه عبر السنّ والعين. فكل يوم يقدَّم أبناء العراق عامة والمسيحيون خاصة على مذبح الضحية… بكاء ودموع ودماء… نعم، نهرانا قد إمتلئا دماءاً ودموعاً، فقد أغوتنا العولمة، واستهزأت بنا أموالنا، وأصبحنا جميعاً نتحرك كما يشاؤون كلعبة الشطرنج، ونذهب ونُقسم على موائد الغرباء معلنين أنّ ما قيل وما كُتب كان في خط الضلالة, ولا يجوز أن نقول الحق، فالحقيقة شوكة في عيون المتعالين. فقد زادت خطيئتنا، فاغفر لنا يا رب، إنك رحيم غفور.

          أرجوكِ، أرجوكِ، أرجوكِ، يا سيدتي، وعلى شاكلة المصريين أقولها ثلاثاً، أنا أؤمن أن الصلاةَ مفتاحٌ لباب الرجاء, لنفرح بالقائم من الأموات يسوع المسيح… إبن مريم… إبن فاتيما, أَلستِ أنتِ هذا الباب؟… وهذا الرجاء علّمنا أياه غبطة أبينا الكلي الطوبى مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان يوم زيارته الرسوليه لبلدنا الجريح, وباسمه حرّرتُ كتابي “علامة الرجاء في أرض الآباء”.

          أرجوكِ, أذكري اسم العراق وشعبه، واحمليه على رحى كفيكِ، يا ملكة الرجاء، يارسولة الصلاة، لعلّ وعسى يكون الأمل لنا بما بقى، وتحت ظل جلبابكِ أسترينا، أرسلي لنا الدفء والحنان ليسود السلام والأمان، ولتتجدّد الروح ويكون العزاء… إلامَ تنتهي المأساة؟… ولكن لتكن مشيئة الرب، وها أنا عبد للرب.

سنبقى لإيماننا ولأمّنا الكنيسة أمناء، ولتربتنا أوفياء، ولإخوتنا أحبّاء… فمريم، أمّ البشر، أمّ الكون، أمّ الكنيسة، أمّنا.

سنبقى شهود وشهداء، وكلماتُكِ “إعملوا ما يأمركم به”(يو 5:2) تزرع فينا الأمل والرجاء. وسنبقى في أرضنا مهما إرتفعت أسنّة الحراب، ومهما أمتُشِقت السيوف، وصهلت الخيول, ومهما أُخفيت الحقيقة, وهوجمت البراءة, واتّسعت التهديدات. فربنا يسوع قالها:”لا تخافوا…”(لو 32:24). سوف لن نخاف، وحياتنا فدية للمسيح الحي _ عيسى الحي _ إبن مريم… ومهما خيّمت علينا غيوم الجمعة العظيمة، فعيوننا تتطلّع إلى أحد القيامة، وفيكِ يا عذراء سيُكتَب لنا الرجاء… أكيد، فمهما كان إيماننا ضعيفاً أو قليلاً مثل حبة خردل، سيكون الرب عوننا، ومرافقاً لمسيرة إيماننا.

          حينما أركعُ  أمام تمثالكِ، أجد إسمَ العراق مكتوباً أمام عينيكِ… فأقرأ حبكِ له ولشعبه، وأتأمل مسيحيّي العراق حينها وهم يرتلون وينشدون كرعاة بسطاء لفاتيما العذراء “أذكري أمّ الحنا”، كما كان (جاسينتا وفرانشيسكو)… فإن كانت هذه إرادة الرب، فنحن لها مسلَّمون.

          لا أستطيع أن أحجّ إليكِ، فالأقوياء يختمون كتبي بأني غريب، والإدارة لا تزوّدني بشهادة لأرحل بعيداً، إذ لا أملك حتى صوتاً ولا بساطاً. ولكن قادني الروح، وإلى حج الصلاة رافقني، فوجدتُكِ تفتحين أبواب السماء في هذه سنة الكهنوت. وبدأتُ أتمتم: يا مريم، قدّسيني، وقدّسي إخوتي. أطلب منكِ أن تقدّسي المدبرين والتلاميذ، وتعلّمي شعبنا طريق الإيمان وحسّه، ورهباننا طريق الطاعة في العفّة والتجرّد، فنحيا جميعاً كشهود وشهداء لحامل الرجاء، يسوع المحبة والفداء.

ما قلتُه قليل من كثير… ألا يكفي العذاب لأبناء بلد إرتوت جداوله من دماء الأبرياء؟… فنهرانا قد نشفا من ماء الحياة، ليمتلئا دماءً ودموعاً… وليس لي أن أقول لكِ إلا شكراً، وشكراً، وشكراً, يا ماما… فقد جاءت الخاتمة وهي بداية المشوار في مدرستكِ “تحت أقدام الصليب”… وكما يقول مار أفرام السرياني:

فليطرد الرب بصلاتكِ ظلامنا

ليكن الحق سوراً لكِ، والصليب عصا، والعدل سلاحاً

هكذا تعود إلينا حاملاً رحمةً وحناناً (الإشحيم: صلاة الفرض ليوم الأربعاء)

لا، وألف لا. لن نكون صيداً للخطيئة، ولا عبي
داً للمال، بل سنبقى للرب أمناء، ولكنيستنا أوفياء. نعلن الحقيقة في وقتها وغير وقتها “قولوا الحق والحق يحرركم”(يو 32:8)، مهما علت الدرجات المظلمة تجاه البشر الأبرياء. وكوني مطمئنة على الشجرة المغروسة على صخرة المسيح، فلا يمكن أن تُخلع أوراقُها, ولن تذبل أبداً, كما لا يمكن أن تودّع الربيع رغم قسوة الشتاء ورياح الخريف وحرّ الصيف اللاهب، والتي مرّت علينا ولا زالت حتى الساعة، وحتى لو أُعدمت بأفواه الراجلين، فالرب هو الذي يحمي ويُنمي (متى 27:4).

هذا رجاؤنا، وفيكِ قيامتنا بالمسيح يسوع وأمّنا مريم سيدة الكون. سنظلّ نحرق البخور، ونوقد الشموع، ونرفع الصلاة، مهما خنقتنا أشواك الهيمنة والسيطرة, والجدران الفاصلة, والحدود العازلة, والأسلاك الشائكة, واختناقات الزمن, بصلاتكِ يا أمّنا مريم ، وببركتكِ الأمومية سنكون للآخرين جسور محبة, وتسامح, وغفران… وهذه رسالة مسيحنا وفادينا يسوع المسيح, “لأنهم لا يدرون ما يفعلون”(لو 34:23).

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير