بقلم روبير شعيب
روما، الثلاثاء 22 يونيو 2010 (Zenit.org). – ملاحظة: هذه المقالة، رغم أنها مستقلة بحد ذاتها، إلا أنها تفترض ضمنًا كتمهيد للفهم المقالات التالية، بالتسلسل الآتي: “الأسطورة المنطقية. دراسة تاريخية في نشأة الإنفصال بين الإيمان والعقل في العصر الحديث“، ” أسطورة التقدم الأفقي“، “قراءة روحية لثمار العصر الحديث“، “في سبيل عقلانية منفتحة“. تأتي هذه المقالة كخاتمة لهذه السلسلة من المقالات الفلسفية-اللاهوتية التي أرادت النظر مليًا إلى إرث الحداثة وجواب المسيحية على هذا الإرث.
* * *
نبدأ بكلمة تمهيد تفسّر العنوان: “التقدم التصاعدي: انفتاح الشخص البشري على الحب”. إذا كانت خديعة العصر الحديث التي لم يطل وهمها هو التقدم الأفقي المنغلق على محدودية الإنسان، التي ظن فلاسفة العصر الحديث لوهلة أنها لامحدودة، فما نريد أن نستعرضه هنا هو تقدم ينفتح على ما يسمو الإنسان، يجذبه ويؤلهه مقدمًا له أفق تقدم تصاعدي يجعل الإنسان يكتشف الجو الحقيقي الذي يستطيع أن يعيش فيه التقدم المتكامل: الجو الإلهي. سنسعى في أقسام هذه المقالة إلى تبيان “السبيل الأفضل” لهذا التقدم: درب المحبة.
الإيمان والمعرفة
“لقد خلق الله أبوابًا كثيرة تقود إلى الحقيقة، يفتحها لمن يقرع بيد الإيمان” (جبران خليل جبران).
إن النتائج التي توصلنا إليها في دراستنا لنصوص العهد الجديد، وخصوصًا للنصوص المنسوبة للقديس يوحنا تجعلنا نوقن أن الحقيقة في الكتاب المقدس، وفي العهد الجديد بالأخص، هي شخص، شخص يسوع المسيح، هي كلمته التي سمعها بدوره من الآب. هذه الكلمة هي “دَبَر” (بالعبرية)، هي كلمةُ-حَدَثُ الوحي، التدبير الخلاصي بأسره. يكتشف المؤمن هذه الحقيقة – كما رأينا في المقالات السابقة – عبر انفتاحه عليها، إصغائه لها، طاعته لإلهاماتها، وبكلمة، عيشها.
ولكن كيف يتحقق هذا العيش؟ وكيف تتبلور هذه المعرفة؟
يقدم لنا القديس يوحنا جوابًا واضحًا: معرفة الحقيقة تتم في الإيمان. نجد في الكتابات اليوحنوية ترابطًا وثيقًا بين المعرفة (ويوحنا يستعمل فعلين للتعبير عن المعرفة: ginoskein و eidenai أي الفهم والمعرفة) والإيمان (pisteuein): معرفة الحقيقة المسيحية هي مرادف للإيمان بها والثقة بها. يجدر بالذكر أن الإيمان كاسم (pistis) لا يرد أبدًا في إنجيل يوحنا (يرد مرة واحدة في رسالة يوحنا الأولى، و4 مرات فقط في سفر الرؤيا)؛ وهذا الأمر شاهد بأن يوحنا يفضل أفعال الإيمان على الإيمان النظري. يكتب المفسر الكتابي رايموند براون (Brown): “إن تفضيل الإنجيلي لفعل “ pisteuein” على الاسم لهو دليل على أن يوحنا لا يفهم الإيمان كموقف داخلي بل كالتزام فاعل” (R.E. Brown, Giovanni. Commento al vangelo spirituale, Assisi 19995, 1455). بمعنى ما، هذا المفهوم لفعل الإيمان الذي لا يتحقق بالكامل في المقولة بل في الواقع (actus credentis non terminatur ad enunciabile, sed ad rem) بحسب ما يقول القديس توما الأكويني في الخلاصة اللاهوتية (2-2، 1، 2)، يربطه يوحنا الإنجيلي بواقع محدد: شخص-حقيقة يسوع المسيح؛ وفي الوقت عينه فعل الإيمان هذا له خصائصه المحددة هو فعل الحقيقة و الكيان (الإقامة: menein) في الحقيقة.
كل معرفة في يوحنا تبقى متحدة بالتقدم في حياة الإيمان، وبفعل الحقيقة. وكمال المعرفة يكمن في الإقامة في كلمة المسيح وفي حفظها (Cf. I. De La Potterie, La vérité dans saint Jean, II, Le croyant et la vérité, Rome 1977, 557-8).
وعليه فمعرفة الإيمان تختلف كثيرًا عن المعرفة النظرية: هي معرفة فاعلة، واقعية، واثقة، وشخصانية. وبُعدها الشخصاني الحميم يظهر في تفضيل يوحنا لحرف الجر في (eis) الذي يلي فعل آمن (pisteuein)، فتكون الترجمة العربية “آمن في” أكثر منه “آمن بـ”. هذا التعبير الذي يبدو غريبًا في اللغة العربية هو كذلك أيضًا في اللغة اليونانية، فهو إبداع يرد 36 مرة في إنجيل يوحنا، 3 مرات في رسالته الأولى، و8 مرات فقط في كل كتب العهد الجديد الأخرى، وهو لا يرد أبدًا في الترجمة السبعينية أو في النصوص اليونانية الكلاسيكية. يستعمل يوحنا تعبير (Pisteuein eis) للتعبير عن الإيمانالثقة بشخص ما. لا نجد في يوحنا تمييزًا بين فعل الإيمان وأفعال الإيمان، بين الإيمان والأفعال. فالإيمان بيسوع هو العمل الذي يريده الله (يو 6، 29)، لأن الإيمان يتطلب ويتضمن حفظ كلمة يسوع ووصاياه والإقامة فيها (راجع يو 8، 31؛ 1 يو 5، 10). يعبر يوحنا أيضًا عن إمكانية تبادل المعرفة والإيمان فيقول: “إن الكلمات التي أسلمتَها لي، سلمتها إليهم؛ وهم قبلوها وعرفوا حقًا أني خرجت منك وآمنوا أنك أرسلتني”.
(يتبع)