عظة البطريرك الماروني بمناسبة عيد رأس السنة

بكركي، الأحد 1 يناير 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي التي تلاها خلال الاحتفال بالقداس الإلهي يوم الأحد 1 يناير 2012 بمناسبة رأس السنة عيد السلام العالمي.

Share this Entry

* * *

 “دُعي اسمه يسوع” لو2:21

1.       في اليوم الثامن، بعد ميلاد ابن الله انسانًا، أعطي اسم يسوع، كما هي العادة في الشرع القديم، واسمه يعني ” الله يخلّص شعبه من خطاياهم “. فاختار خادم الله البابا بولس السادس في سنة 1967 اليوم الأوّل من كل سنة “يوم السلام العالمي”. ومذ ذاك الحين والبابوات يوجّهون رسالة عن مفهوم السلام ومقتضياته وأهميته لحياة الشعوب. وها نحن اليوم مع الرسالة الخامسة والأربعين التي يوجّهها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لهذا العام، بعنوان:” تربية الشبيبة على العدالة والسلام “.

بدعوة كريمة من اللجنة الاسقفية “عدالة وسلام” بشخص رئيسها سيادة المطران سمير مظلوم، جرياً على عادتها في كل سنة، يسعدنا أن نحتفل بيوم السلام معكم أيها الشباب الذين تمثّلون كلّ شبيبة لبنان، ومعكم جميعاً ايها الاخوة والاخوات، راجين أن نكون كلّنا موطّدي عدالة وصانعي سلام.واني اهنّئكم بالعام الجديد، متمنياً أن يحمل كلّ خير ونجاح، وان يتحقّق فيه سلام عادل ودائم، ولاسيما في وطننا وبلدان الشرق الاوسط. ونحيي بنوع خاص كل اللجان والحركات والمنظمات والهيئات المعنية بالشبيبة التي تشارك في هذا الاحتفال وقد نظّمته مع منسّق دائرة راعوية الشبيبة في البطريركية الخوري توفيق بو هدير ومعاونيه.

2. الرابط بين اسم يسوع والعدالة والسلام.

كون اسم يسوع يعني ” الله الذي يخلّص شعبه من خطاياهم ” (متى 1 : 21)، فانّ الخطيئة مخالفة للعدالة التي هي فضيلة التديّن. قوام هذه الفضيلة أولاً ارادة ثابتة وراسخة لإعطاء الله ما يحقّ له، أعني : تأدية العبادة له بالإقرار به خالقًا ومخلصًا، سيّدًا ومعلمًا، محبّاً رحوماً لامتناهياً، وبالخضوع له ولوصاياه ورسومه؛ اداء الصلاة برفع الروح والقلب الى الله، للحمد والشكر والتشفع والالتماس؛ المشاركة في ذبيحة المسيح القربانية في قداس الأحد والعيد، والعيش في الامانة وكبح الحواس والغرائز وتحمّل الآلام وضمّها الى هذه الذبيحة الخلاصية؛ الوعود والنذور لله بأفعال وصلوات وصدقات لقاء نعمه. وقوام فضيلة التديّن ثانياً اعطاء الانسان ما يحق له من شؤون مادية وثقافية وروحية ومعنوية. المخالفة للعدالة تجاه الله والقريب خطيئة، تحتاج الى غفران يأتي من موت المسيح وقيامته، ومن محبّة الله وقوّة الروح القدس، بواسطة سرّ التوبة  وخدَمة الكنيسة.

   3. إنّ مخالفة العدالة تزعزع السلام، إذ تولّد التوتر والاضطراب، وتنغّص سلامة العيش والعلاقات بين الناس، وتتسبّب باللجوء الى العنف، لأنّ السلام ثمرة العدالة (أشعيا 17:32) وكون يسوع المسيح ” أمير السلام “(أشعيا 5:9)، فالعالم بحاجة الى المصالحة بواسطته مع الله والناس. وحده الغفران، وثمرته المصالحة، يزرع السلام في القلب، ومنه ينتشر الى العائلة والمجتمع. هذا هو سلام المسيح الذي قال عنه: ” السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم، لا كما العالم يعطي، أعطيكم أنا ” (يو 27:14).

إنّ أهمّ ما تتربى عليه الشبيبة التربية على العدالة والسلام، موضوع رسالة قداسة البابا بندكتوس.                                                    

4. التربية:

    يحدّدقداسته التربية بأنّها قيادة الإنسان خارج ذاته من أجل إدخاله في واقع يتّجه به نحو نموّ شخصيته بملئها. تبدأ التربية بالإدراك أنّنا على صورة الخالق، وتالياً بالإحترام العميق لكلّ كائن بشري آخر، ومساعدته ليعيش حياة ترفعه الى مستوى كرامته السامية. وتهدف التربية الى إنماء الإنسان، إنماءً أصيلاً وشاملاً بأبعاده الثقافية والروحية والإجتماعية والإقتصادية. فلا يمكن أن يضحّى بهذا الانماء من أجل مكسب خاصّ، إقتصادياً كان ام إجتماعياً، فردياً أم جماعياً.

يعتبر قداسة البابا أن التربية على الحرية والحقيقة، أساس للتربية على العدالة والسلام. الحرية الاصيلة لا يمكن فهمها شخصياً والبلوغ إليها إلا من خلال العلاقة مع الله، وإستعمالها أستعمالاً سليماً محوريّ من أجل تعزيز العدالة والسلام. فالحرية قيمة ثمينة ودقيقة، ويمكن أن يُساء فهمها وإستعمالها. الحقيقة،التي هي أعظم ما يشتهيه الإنسان، كما يقول القديس اغسطينوس، تقتضي المعرفة لطبيعة الشخص البشري الذي هو كائن يحمل في قلبه عطشاً الى اللامتناهي، إلى الحقيقة القادرة على تفسير معنى حياته، كمخلوق على صورة الله ومثاله.

 الحقيقة والحريةتجعلان من الإنسان كائناً ذا علاقات مع الله ومع الآخرين، تتميّز بالثقة المتبادلة، والقدرة على بناء حوار بنّاء، وإمكانية الغفران، والمحبة المتبادلة، والتحنّن على الأكثر ضعفاً، والجهوزية للتضحية. هذه الميزات تعطي لفظتي العدالة والسلام مضمونهما.

5. التربية على العدالة والسلام:

ما يحدّد التربية على العدالة والسلامهو هوية الكائن البشري العميقة، لا الشريعة الوضعية ولا الإتفاقيات البشرية. فمفهوم العدالةمتأصّل في جذور تسمو على الشؤون المادية، وينفتح على أفق التضامن والمحبة. إن مدينة الأرض لا تتألف فقط من علاقات قانونية تختص بحقوق وواجبات، بل تتكوّن على الأخصّ من علاقات المحبة والرحمة والشركة. هذه الأخ
يرة تعطي قيمة لاهوتية وخلاصيّة لكل التزام من أجل العدالة في العالم. عندما أعلن الرب يسوع :” طوبى للجياع والعطاش الى العدالة لإنهم يشبعون” (متى 6:5)، إنما كان يعني أنهم سيُشبعون لأنهم جياع وعطاش لعلاقات سلميّة مع الله، ومع ذواتهم، ومع الأخوة والأخوات، بل ومع الخليقة بأسرها، من خلال ممارستهم للعدالة الملطّفة بالرحمة والمحبة.

التربية على السلام الذي هو ثمرة العدالة وأحد مفاعيل المحبة، ترتكز على أن السلام  عطية من الله. نحن نؤمن أن المسيح سلامنا الحقيقي. فبه وبصليبه صالح الله العالم مع ذاته، وهدم الأسوار التي تفصل بين لبشر (راجع أفسس 2: 14-18). بالمسيح يوجد عائلته واحدة متصالحة في المحبة. ليس السلام فقط عطية نقبلها، بل هو أيضاً عملٌ نبنيهكل يوم في العائلة والمجتمع والوطن، وفقاً لإنجيل التطويبات: “طوبى لفاعلي السلام، فإنهم أبناء الله يُدعون”(متى 5: 9). السلام للجميع يولد من العدالة لكل واحد.هذا ما ينبغي أن تدركه الشبيبة التوّاقة الى المُثُل، لتصبر وتصمد في البحث عن العدالة والسلام، وفي تربية الذات على كل ما هو عدل وحق، ولو كلّف ذلك تضحيات وممانعة لكل سعي مخالف.

فيا شبيبتنا، كونوا شهوداً للحقيقة والعدالة والسلام، وتجنّبوا كل ما يشوّه الحياة الاجتماعية عندنا، كالكذب، وشهادة الزور، وانتهاك سمعة الغير سواء بالحكم المسبق والجائر، أم بالنميمة والافتراء، أم بالحطّ من كرامته.

   6.المسؤولون عن التربية على العدالة والسلام:

 يتكلّم قداسة البابا في رسالته عن المسؤولين عن تربية الشبيبة على العدالة والسلام، والأمكنة التي تنضج فيها هذه التربية. وهي :

أ.العائلة

تشكّل العائلة المدرسة الأولى للتربية على العدالة والسلام والنضوج فيها، لأنّ الوالدين هم أوّل المربّين، ولأنّ العائلة هي الخلية الأصلية للمجتمع. فيها يتعلّم الأولاد القيم الإنسانية والمسيحية التي تمكّنهم من العيش معاً بشكل سلمي وبنّاء. في العائلة نتعلّم التضامن واحترام القواعد والغفران وقبول الآخر. إن حضور الأهل عنصر أساسي لتأمين هذه التربية.

ب‌.  المؤسسات التربوية

للمؤسسات التربوية دور خاص في تربية الأجيال الطالعة على العدالة والسلام. إنها تربّي على احترام كرامة كل شخص وإعطائه قيمته في كل المناسبات. تساعد كل طالب على اكتشاف دعوته، وتواكبه في تثمير العطايا التي أنعم الله بها عليه، وفيها يُفسح بالمجال للإنفتاح على السمو فوق شؤون الأرض. تشكّل المؤسسة التربوية المكان المفضّل للحوار والإصغاء، وتذوّق فرح العيش معاً بالمحبة والصداقة والعطف، وفرح المشاركة الفعلية في بناء مجتمع اكثر أنسانية وأكثر أخوّة.

ج‌.   المسؤولون السياسيون:

يلعب المسؤولون السياسيون دوراً خاصاً في تربية الشبيبة على العدالة والسلام، على أربع مستويات: بمساعدتهم الفعلية للعائلات والمؤسسات التربوية، لتتمكّن من ممارسة حقّها وواجبها في التربية؛ بالدعم الملائم للأمومة والأبوّة؛ بتعزيز الوسائل المعيشية لحاجات الأهل؛ وبتقديم صورة صافية عن العمل السياسي كخدمة حقيقيّة لخير المجتمع.

د‌.     وسائل الإعلام

تساهم وسائل الإعلام بدورها في تربية الشبيبة على العدالة والسلام، عندما لا تكتفي بنقل الخبر والحدث، بل تعمل موضوعياً على تكوين الرأي العام وذهنيات السامعين والمشاهدين والقرّاء، على أساس الحقيقة والعدالة والسلام. بين التربية والإعلام رباط وثيق، ينبغي العمل على أن يكون إيجابياً دائماً. وبهذا تحفظ كرامة وسائل الإتصالات الإجتماعية.

ه‌.  الشبيبة نفسها

   الشبيبة نفسها مسؤولة عن تربيتها الذاتية على العدالة والسلام. لذا عليها أن تقبل ما يُقدّم لها من سائر المسؤولين عن التربية، وأن تحسن إستعمال حريتها.

        نداء:

    إذا توفّرت لكم أيها الشباب، التربية الاصيلة على الحرية والحقيقة كأساس للتربية على العدالة والسلام، تستطيعون أن تتحلّوا بذهنية جديدة نحن بحاجة ماسّة إليها للنهوض بلبنان دولة مدنية ديموقراطية حديثة، على أساس عقد وطني إجتماعي جديد، يطوّر الصيغة التطبيقية لميثاق 1943 الوطني، ميثاق العيش معاً. إنّ تطوير هذه الصيغة يستوجب إحترام التنوّع في الوحدة، وحماية حرية الرأي والضمير، والعمل لمصلحة جميع فئات المواطنين والمناطق، وإدراك رسالة لبنان الحضارية والثقافية في العالمين المسيحي والإسلامي وفي المحيط العربي، إنطلاقاً من تجربته التاريخية ومن موقعه الجغرافي المتوسّطي.

   وأختم بنداء الكنيسة اليكم على لسان قداسة البابا بندكتوس في رسالته ليوم السلام العالمي: “أيها الشباب، ادركوا أنّكم مثال حيّ للكبار، عندما تحقّقون الانتصار على الظلم والفساد؛ وعندما تتوقون الى مستقبل أفضل وتلتزمون في بنائه؛ وعندما تسلكون طريق البذل والسعي والثبات والتواضع والتفاني؛ وعندما تسعون لحلّ المعضلات على اساس العدل والانصاف. ثقوا بقدراتكم، ولا تنطووا على ذواتكم. لستم لوحدكم. فالكنيسة الى جانبكم، تثق بكم، تتابعكم، تشجّعكم وترغب في أن تقدّم لكم ما هو الأثمن: أعني إمكانية رفع نظركم الى الله واللقاء بيسوع المسيح، الذي هو ينبوع العدالة والسلام. له المجد الى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير