1. فقط بالمحبّة، المسكوبة في القلوب بالروح القدس، نسمع كلام الله، وكلمة إنجيل المسيح وتعليم الكنيسة، ونحفظها و نعمل بموجبها. بدون المحبة لا يستطيع أحد أن يُصغي لله، وللمسيح، وللكنيسة، وأن يلتزم بالوصايا والتعليم. هذه القاعدة تسري على العائلة والمجتمع والوطن. فبالمحبّة يسمع الأولادُ كلمة الوالدين؛ وبالمحبّة يسمع أبناءُ المجتمع وبناتُه صوت الأخوّة والتعاون؛ وبالمحبّة يسمع المسؤولون والمواطنون كلام الدستور ونداء الضمير في خدمة الشأن العام. هذا ما نفهمه من تأكيد الربّ يسوع في إنجيل اليوم: “مَن يُحبّني يحفظ كلمتي“(يو14: 23).
2. عدنا أول من أمس من وارسو، عاصمة بولونيا، حيث لبَّينا دعوة رئيس أساقفتها نيافة الكردينال Kazimierz Nycz لإلقاء محاضرة في مؤتمر حول “المسيحيين في الشرق الأوسط”. فتكلّمت فيها عن الأوضاع الراهنة، وعن دور المسيحيين البنّاء في حياة البلدان المشرقية وأهميته وضرورته لحماية الإعتدال الإسلامي، وعن التحدّيات التي يواجهونها. واشتركنا بتطواف القربان في عيد خميس القربان، وألقيتُ العظة حول السرّ المقدّس، وهو سرّ الإيمان، وعلامة الوحدة، ورباط المحبة. وشاهدنا في هذا التطواف كم أنّ الشعب البولوني شعبُ صلاة ومحبة للقربان الذي اتّخذوا منه قوّةً للصمود ولتحرير بلادهم من الاحتلال الروسي.، وقد شارك في التطواف عشرات الألوف. والتقينا رئيس الجمهورية البولونية ووزير خارجيتها، وشدّدنا روابط الصداقة والتعاون. كما التقينا سفير لبنان السيد ميشال كترا والجالية اللبنانية. ولا يسعنا إلاّ أن نشكر من صميم القلب نيافة الكردينال Nycz على الحفاوة وحرارة الاستقبال، والسيد Thomas سفير بولونيا في لبنان على إعداد هذه الزيارة ومتابعة محطاتها. نأمل أن يتشبّه اللبنانيون بالشعب البولوني في التماسك والعمل بشجاعة على تحرير لبنان داخليًّا وخارجيًّا وإعادة بنائه.
3. المحبّة مُقتضىً أساسيّ لسماع الكلام والتعليم، ولحفظه، لأنّه كلام صادر من القلب، من قلب الله والمسيح والكنيسة. ولأنّه كلامٌحاملٌ الحقيقة، على ما يقول الربّ يسوع في إنجيل اليوم: “الكلمة التي تسمعونها ليست كلمتي، بل كلمة الآب الذي أرسلني”(يو14: 24). هذه الكلمة تقول حقيقة الله والانسان والتاريخ. حقيقة تُحرِّر وتجمع. بل هذه الكلمة الإلهية أصبحت بشرًا(يو1: 14)، وإخذت إسمًا في التاريخ: يسوع المسيح. هو المسيح نفسه الكلمة والحقيقة. فلا يمكن لأحد أن يسمعه ويحفظ كلامه من دون محبّة له في قلبه.
4. كلام المسيح هو كلام الحقيقة التي تُعطي السلام، كما يعد الربُّ في إنجيل اليوم: “السلام أستودعكم، سلامي أُعطيكم“(يو14: 27). بل يقول بولس الرسول: “المسيح سلامنا”(أف2: 14). إنّه سلامٌ داخلي: سلام العقل المستقرّ في الحقيقة؛ سلام الإرادة الملتزمة فعل الخير؛ سلام الضمير المصغي لصوت الله في أعماق الانسان؛ سلام القلب المملوء حبًّا وحنانًا وطيبة.
سلام المسيح هذا هو غير سلام العالم المبنيّ على المصالح الآنيّة التي تتبخّر سريعًا، والمفروض قسرًا من القويّ والمستبدّ والظالم. سلامُ العالم سلطةٌ ومالٌ وسلاح، لكنّه حالةُ قلق واضطرابٍ وخوفٍ وفراغٍ داخلي، وكآبةٌ في النفس، وتشويهٌ لوجه الإنسان، وهدمٌ للعلاقات السليمة بين الناس.
5. لبنان والشرق بحاجة إلى سلام المسيح، الآتي من الله، سلام المحبّة والحقيقة. لا يمكن أن يجد لبنانُ وبلدان هذا الشرق وشعوبُها السلامَ وأن تنعم به، طالما يتحكّم بها المال والتسلّط والسلاح، طالما يعشعش الكذبُ والفسادُ في العقول والإرادات ، وطالما تطفحُ القلوبُ بالحقد والضغينة، وطالما الوجوهُ مقنّعة. هذه الحالة يُشبّهها المسيحُ الربّ “بالقبور التي لا علامة لها، ويمشي عليها الناسُ وهم لا يعلمون”(لو11: 44).
6. إنّ قرار النواب اللبنانيين، الذي اتّخذوه بعد ظهر الجمعة بأقلّ من خمس عشرة دقيقة مُمدّدين لنفسهم سنة وخمسة أشهر، بينما عجزوا عن وضع قانون جديد للإنتخابات على مدى ستّ سنوات من الدرس والتشاور والحسابات، قد تسبّب بإسقاط ثقة الشعب بهم، خاصّة وأنّهم جعلوا من الوكالة المعطاة لهم من الشعب لمدّة معيّنة، ملكيّةً خاصّة. فمدّدوا ولايتهم بمعزلٍ عن إرادة الشعب، بل رغمًا عنه، ومن دون أسباب مقنعة لتبرير التمديد سوى المصالح الخاصّة والفشل.
إنّنا نأسف كلَّ الأسف من جهتنا، على عدم احترام ما طالب به مجلس المطارنة في بيان الاثنين الماضي “بعدم اتخاذ أي قرار تمديد، قبل أن يُقرّ المجلس النيابي قانونًا جديدًا للانتخابات”. ولكن لنا ملء الثقة بالمجلس الدستوري بأن ينظر في موضوع الطعن بما تُملي عليه نصوص الدستور، ومقتضيات العدالة والإنصاف، والضمير الوطني المُنزّه، الذي يتمتَّع به أعضاء هذا المجلس.
أمّا المجلس النيابي فعليه أن يُصحّح خطأه بإقرار قانون جديد للانتخابات يُراعي مصالح اللبنانيين ككل، من دون أي اعتبار فئوي أو حزبي، وأن يعمل جدّيًّا على إجراء الانتخابات النيابية في أسرع ما يمكن.
7. وإنّنا، فيما الشعبُ اللبناني يرزح تحت أعباء الأزمة الاقتصادية الخانقة، والتوتّر الأمني الضاغط، والذي يطالب بحقّه المقدّس في أن يعيش بسلام وطمأنينة واستقرار على أرض وطنه،
8. إنّنا، فيما نُحَيّي شعبَ لبنان المحبّ لوطنه، ندعوه للتمسّك بإيمانه وبمحبّته لله والاتّكال على عنايته، وأن يتضامن في العمل من أجل السلام والاستقرار في لبنان، وأن يُصلّي لكي يُرسل لنا اللهُ قادةً سياسيّين يخافونه ويعملون بتجرّدٍ وشجاعة على خلاص لبنان وتحريره من العابثين به وبكرامته وبشعبه ومؤسساته، قادةً مخلصين يعيدون إليه دوره ورسالته في هذا المشرق ووسط الأسرة الدولية.
من هذه الأرض اللبنانية التي باركها الله بالقديسين وبجمال الطبيعة، والتي نحافظ عليها كذلك، نرفع معًا نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.