عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – قداس عائلات قلب يسوع في عيده – بكركي، الجمعة 7 حزيران 2013

“ليس لأحد حبٌّ أعظم من هذا، وهو أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه”

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

1. هذا الحبّ الأعظم هو حبّ ابن الله، الذي صار إنسانًا، يسوع المسيح، فمات فدىً عن البشرية جمعاء، ونال غفران الله لكلّ إنسان، وأعطانا الحياة الجديدة بالروح القدس، وأسّس سرّ القربان والكهنوت، سرَّي حبّه اللامتناهي، من أجل استمرارية ذبيحة الفداء، ومَنْحِ الحياة للعالم بطعام جسده ودمه. هذا الحبّ الأعظم نُكرّمه ونقتدي به في عبادة قلب يسوع الأقدس. هذه العبادة هي مدرسة الحبّ على مثال المسيح، وقد جعله قاعدة لحياة الإنسان: “ليس لأحد حبٌّ أعظم من هذا، وهو أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه”(يو 15: 13).

2. يسعدنا أن نحتفل بعيد قلب يسوع مع “عائلات قلب يسوع” التي دعت إليه ونظّمته، ومع المرشدين، ومعكم جميعًا أيّها الحاضرون. ونوجّه تحيّة حارّة للأخويات التي تواصل عبادة هذا القلب الأقدس في مختلف الرعايا، ولكلِّ المؤمنين والمؤمنات الذين يُحيون هذه العبادة. صلاتنا أن نرتوي الحبَّ من نبع الحب الذي جرى من قلب المسيح الفادي، وقد احتفره الرمح في قلبه على الجلجلة فجرى منه ماء المعمودية ودم القربان (راجع يوحنّا 19: 34).

3. عندما ظهر الربّ يسوع بقلبه الطاهر للقديسة Marguerite Marie Alacoque سنة 1675 قال لها: “هذا هو القلب الذي أحبّ الناس الحبّ الأعظم، حتّى التفاني وبذل الذات، ليشهد لهم عن حبّه. ولكنّي بالمقابل، لا أتلقّى إلاّ الإهانات“. ثمّ عاد وأكّد لها: “إنّ قلبي الإلهي مولَعٌ بحبّ البشر، وبالحبّ لكِ بنوع خاص”. فأدركت الراهبة Marguerite Marie، وهي من راهبات الزيارة، أنّها تتسلّم رسالة نشر العبادة للقلب الأقدس. وهكذا بالتعاون مع الأب Claude La Colombière، الذي وضعه الربّ يسوع على دربها، راحت تعمل على تعزيز هذه العبادة. فوضعت ساعة سجود أمام القربان بروح الإماتة، في آخر خميس من كلّ شهر من الساعة الحادية عشرة حتّى منتصف الليل، تذكارًا ومشاركةً بآلام النزاع التي تحمّلها الرب يسوع وحيداً في بستان الزيتون عندما تركه الجميع، حتى تلاميذه، ودعت إلى المناولة التعويضيّة في يوم الجمعة التالي.

4. ثمّ أوحى إليها الربّ يسوع عن رغبته في إقامة عيد قلبه الأقدس، يوم الجمعة من الأسبوع الذي يلي عيد القربان(خميس الجسد). ما يعني أن عبادة قلب يسوع هي عبادة سرّ القربان نفسه، المعروف بسرّ الحبّ. وهكذا جرى الاحتفال بهذا العيد حتى يومنا. من سرّ الحبّ في القربان الذي علامته قلب يسوع الظاهر لها مُشعًّا بأشعّةِ الحبّ، إستمدّت الراهبة القديسة Marguerite Marie كلَّ القوّة على تحمّل الآلام وصلبان الحياة الحسّيّة والنفسية، حتى إنّها رفضت أيّ دواء يُسكّن مرضها الأخير، وكانت تُردّد: “إنّ ما عندي في السماء، وما أرغبه على الأرض، هو أنتَ وحدك، يا إلهي“. ما أجملها سعادة في قلبها. نحن اليوم نلتمسها في هذا الاحتفال، لكي يكون مثل هذا الحبّ مصدر طاقة لنا للصمود في محن الحياة.

5. الله الذي كشف عن عمق محبة قلبه لكل واحد منا، بيسوع ابنه، يطلب من المؤمن به أن يبادله الحبّ عينه بقوله: “يا بُني اعطني قلبك”(امثال 33: 26). إنّه لا يتركنا غرقى بخطايانا بل “يخاطب قلبنا” من جديد(هوشع2: 16) فنحبّه من كل القلب والفكر والنفس والقوة(تثنية 30: 6). إنها الوصية الأولى التي لا وصية اعظم منها، ومثلها محبة القريب كالحبّ للذات. وهي الوصية القديمة التي جعلها “جديدة” بقاعدتها: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا احببتكم“(يو13: 34). فكتبها شريعةً، لا على الواح حجرية، بل على قلوبنا(2 كور3: 3)، وبها ومن خلالها يكون هو لنا الهاً ونكون له شعبًا(ارميا 31: 33).

إنّ أجمل صلاة تعبيرية عن محبّتنا لقلب يسوع الأقدس، نتلوها في هذا العيد، يرفعها كل واحد وواحدة منّا على لسان القديس جان ماري فيانّيه، المعروف بخوري آرس: “أنا أحبّك يا إلهي، ورغبتي الوحيدة أن أحبّك حتى آخر نَفَس من حياتي. أحبّك يا إلهي المحبوب للغاية، بل أحبّ بالحري أن أموت وأنا أحبّك، من أن أعيش من دون أن أحبّك. أحبّك يا ربّ، والنعمة الوحيدة التي أطلبها هي أن أحبّك إلى الأبد. يا إلهي! إذا لساني عجز عن أن يقول في كلّ وقت أني أحبك، أريد أن يردّد لك قلبي ذلك بكلّ “نبضة من نبضاته”.

6. “حيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم“(لو12: 34). كلام المسيح هذا يعلّمنا أنّ الكنز الحقيقيّ هو الحبّ لله وللإنسان. ومن هذا الكنز يستمدّ كلّ واحد وواحدة منّا ثقافتَه وسعادتَه ونوعيّةَ أعماله ومواقفَه والمبادرات. وهذا الحبّ وحده يملأ فراغ قلب الإنسان بالسلام الداخليّ الذي يشعّه إلى الخارج في العائلة والمجتمع والدولة. إلى هذا السلام وهذه الطمأنينة الداخلية، مهما كثرت المصاعب والمحن، يدعونا الرب يسوع في عيد قلبه الأقدس: “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلين بالأحمال وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم، وتعلّموا منّي: إنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم”(متى 11: 28-29).

7. عيد قلب يسوع يعني حضور المسيح الذي هو “قلب العالم“(البابا بندكتوس السادس عشر)، لكنّه لا ينفصل عن حضور قلب أمّه، “قلب مريم الطاهر“. من هذين القلبَين الأقدسَين المتماهيين، كمن مدرسة واحدة، يستمد الرجال والنساء ثقافة الحبّ وحضارته، ويعملون على نشرها، والتربية عليها، والتعبير عنها، في الحياة اليومية، بالأقوال والأفعال. لقد دخل الله بمحبّته حدود تاريخ البشر وظروفهم الانسانية، متّخذًا جسدًا وقلبًا لكي يعيد للإنسان قدسية جسده، وإ
نسانية قلبه. إنّها الولادة الثانية بمعمودية الماء والروح لإنسان جديد فينا، يغتسل بدم الغفران، ويغتذي من دم الفادي الإلهي وجسده. لقد بدأت هذه الولادة الثانية لكل إنسان، وجرت من ينبوع قلب الفادي المصلوب الذي احتفرته الحربة، فجرى من قلبه الدم والماء(راجع يو19: 37).

8. عالم اليوم، عالمنا في لبنان وعالمنا في الشرق الأوسط، جائع وعطشان إلى حبّ وعدل وسلام. رسالتنا كمسيحيين ان نسدّ هذا الجوع ونروي هذا العطش. لكنّنا لا نستطيع القيام بهذه الرسالة، ما لم تسكُن محبَّةُ الله والإنسان في قلوبنا بالرّوح القُدس، محبةٌ نغرِفها من قلب يسوع الأقدس، من ذبيحتِهِ ووَليمَتِهِ القربانية. إنّ قلب يسوع الأقدس رمزٌ وعلامةٌ لسرِّ حُبِّه في سرّ القُربان، حيثُ جَسَّد حُبَّهُ الأعظَم بِبَذل ذاته ذبيحةَ فداءٍ على الصَّليب، وبِتقديمِ جَسدِه ودَمِه خُبزًا وشرابًا سماويًا للحياة الجديدة فينا وفي العالم.

أيُّها القلب الإلهي البشريّ، قلب يسوع الأقدس وقلب مريم الطاهر، أفِض الحبّ في قلوبنا وفي قلوب جميع الناس، لكي يعيشَ العالم في الحقيقة والعدالة والحريّة والسلام، ويَسعد كل إنسان.

وبنبضات الحبّ من قلوبِنا نرفَع نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القُدس، الى الأبد، آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير