عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في ختام رياضة ومجمع أساقفة الكنيسة المارونية – بكركي، 15 حزيران 2013

“ابتهج يسوع بالروح القدس وصلّى” (متى11: 25)

Share this Entry

   1. نحتفل بهذه الليتورجيا الإلهيّة كصلاة شكر لله، على ثمار رياضتنا الروحية التي قاد تأمّلاتها مشكوراً مرشدُها الأب يونان عبيد المُرسل اللبناني، وعلى نجاح أعمال مجمعنا السنوي المقدّس. لقد جمعنا الروح القدس من أبرشياتنا في لبنان والشَّرق الاوسط وبلدان الانتشار، وزرع في قلوبنا الفرح به، وثبّتنا في الإيمان، وشدّدنا في الرجاء، لكي بالسّلطان الراعوي، المُعطى لنا من المسيح الربّ، نواجه التحدّيات في أبرشياتنا وبلداننا، ونعمل على إزالة القلق من قلوب أبناء كنيستنا وبناتها وسائر الإخوة الذين نعيش معهم. ولقد حملنا في صلواتنا شعوب منطقتنا العربية المتألِّمة من جراء الصراع السياسي المذهبي الذي بلغ حدّ العنف والقتل والتدمير، مخلِّفاً أزمات إنسانية وتهجيرية واقتصادية خانقة. ولكنَّنا نجدّد معهم إيماننا بالله الآب، سيّد السماء والأرض، الذي لا يمكن أن يُفلت تاريخ البشر من يد عنايته وبالابن المخلص الفادي، وبالروح القدس الذي يبهجنا كما أبهج الربّ يسوع ويدفعنا مثله، وهو راعي الرعاة العظيم، للصلاة والعمل. ونظرنا إلى تطلعات جالياتنا في بلدان الانتشار واتّخذنا قرارات لتفعيل التواصل بينهم وبين الوطن والكنيسة الأمّ، ولتأمين خدمتهم الراعوية بشكل أشمل وأوفر.

   2. “ابتهج يسوع بالروح القدس وصلّى” (متى11: 25). بهذا الابتهاج بالروح، اتّخذ الربّ يسوع موقف الصلاة، وجعلها شركة حبّ مع الآب، “سيِّد السماء والأرض” وشكر على أعمال الله، الواحد والثالوث، في تاريخ البشر، وقد أخفى أسرار حكمته عن المعتدِّين بالحكمة والفهم، وكشفها للمتواضعين والودعاء. في صلاته دعانا الربّ يسوع لنُلقي عليه آلامنا وأعباء حياتنا، ونتعلّم منه الصلاة، ومن مدرسته وداعة القلب وتواضع النفس، لكي نجد الراحة والطمـأنينة، ونؤمِّنها لسوانا.

   3. اليوم تبدأون العودة إلى أبرشياتكم، وقد تثبّتنا معاً بالإيمان. فننطلق بحماس الرسل يوم خرجوا من العلية ممتلئين من الروح القدس. ستقولون لأبناء أبرشياتكم: لا يمكن أن نضع الله جانباً، وكأنّه غير معنيّ بشؤون البشر. بل هو هذا الإله الواحد في الطبيعة والمُثلَّث الأقانيم الحاضر معنا أبداً: هو الآب الذي خلقنا ويحفظنا بقدرة عنايته؛ وهو الابن المتجسّد يسوع المسيح الذي افتدانا بموته على الصليب وخلّصنا من سلطان الخطيئة والشر بقيامته من بين الأموات؛ وهو الروح القدس الذي يحيينا بنعمة حلوله، ويحقِّق فينا ثمار الفداء والخلاص، ويقودنا إلى معرفة الحقيقة الموحاة، ويذكِّرنا بوصيّة المحبّة العظمى التي تركها لنا الفادي الإلهي. وهكذا نكون في مجتمعاتنا، كمسيحيّين، شعبَ الشَّركة والمحبة، وشعب الإيمان بالله الشاهد لقيامة المسيح ولانتصار الحياة على الموت، والمحبة على البغض، والنعمة على الخطيئة، والخير على الشرّ.

   4. ولا يمكن للحكّام وللعاملين في الحقل السياسي والشّأن العام في بلدان الأرض، مهما علا شأنهم، وكثر مالهم ونفوذهم، وتطوّرت أسلحتهم، أنيفلتوا من سلطة الله، سيّد السماء والأرض، ومن حكمه العادل، ومن شرائعه ووصاياه. فإنّه وضع للعالم نظاماً ليعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا معاً شؤون الأرض، وينعموا بالخير والعدل. فتكوّنت السلطة السياسية المنتدبة من الشعب “لتقضي له بالعدل، وللضعفاء بالإنصاف” (مز72: 2). فكان على السلطة السياسية أن تعمل لخير المواطنين، دونما تمييز مذهبي أو فئوي، بل بتجرّد من المصالح الخاصّة، ومن دون تسلّط.

لقد تكوّنت كل دولة، بدستورها وقوانينها ومؤسّساتها الشرعية، لكي يلتزم أهل الحكم والإدارة بثلاثة أساسية هي: تنظيم الحياة العامّة في مقتضياتها اليوميّة ومتفرّعاتها؛ وادارة شؤون الدولة في نشاطها الداخلي: الإدارة العامّة والقضاء والأجهزة الأمنيّة، وفي نشاطها الخارجي بما تقيم من بعلاقات متبادلة واتفاقيات مع الدول لصالح الجميع؛ وتعزيز محبّة الوطن لدى أبنائه، وتحقيق آمالهم وتطلّعاتهم، وإزالة هواجسهم، وتجنيبهم ما يتهدّدهم من أخطار.

هذا يقتضي ممارسة العمل السياسي والسلطة بروح الخدمة المقرونة بالمناقبيّة والكفاءة وبإتمام الواجب بتجرّد وخلقية وشفافيّة.

    5. ولكن في لبنان نرى أن الاداء السياسي قد انحرف بشكل سافر عن أهدافه الوطنية ومبرّر وجوده؛ وبات يعطّل الحياة السياسية، ويسيء استعمال السلطة، ويكبّل عمل المؤسّسات الدستورية، ويُسيِّس مذهبياً الوزارات والإدارات والقضاء؛ ويُغرق البلاد في أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، ويُفقر الشعب، ويهجّر القوى الوطنية الحيّة، ولا يلتزم حياد لبنان عن المحاور الإقليمية، لا بل يتدخل بالشؤون الداخلية لبلدان اخرى، في طليعتها سوريا، ويهمل الأمن الداخلي والاستقرار، ويجعل الشعب فريسة الاعتداءات على حياته وممتلكاته، ورماه في خيبة ممَّن انتدبهم لخدمة الوطن والخير العام.

   لذلك ترانا نحن، رعاة الكنيسة، مدعوِّين لقيادة شؤون شعبنا المأخوذ رهينة المصالح السياسيّة والمذهبيّة والحزبيّة. نأخذ زمامه بأيدينا بكل مسؤوليّة راعوية، ونعنى بتوجيهه وفق خطّة راعويّة ووطنيّة، ضمن إطار مسؤولياتنا الكنسية، والقطاعات التي تناولها كلّ من المجمع البطريركي الماروني بنصوصه الثلاثة والعشرين، والإرشاد الرسولي: “رجاء جديد
للبنان” للطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني (1997)، والإرشاد الرسولي الأخير “الكنيسة في الشَّرق الأوسط، شركة وشهادة” للبابا بندكتوس السادس عشر (2012)، “فشرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان”، التي وضعها المركز الماروني للتوثيق والأبحاث.

    إنّ شعبنا الضائع بين الفريقين المذهبيين المتنازعين، ويتساءل عن المصير، يقتضي منا،  نحن رعاة الكنيسة، أن نوجّهه ونكون بقربه ونرعى مصالحه.

        إننا نصلي إلى الله لكي يرسل للبنان رجالات دولة جديرين، يتميَّزون بالتجرُّد عن المصالح الرخيصة، وبالشجاعة في الدفاع عن شؤون الوطن والمواطنين؛ يميّزون بين العدل والظلم، بين الحقيقة والباطل، بين الخير والشر؛ يخضعون للدستور والقوانين ويحترمونها ويعززونها، ويكونون مثالاً للمواطنين في إعلاء شأنها فوق كلّ اعتبار؛ ينتشلون لبنان من الهوّة التي أسقط فيها، ويعيدون إليه دوره الحضاري والسلمي في هذه المنطقة، بفضل نظامه الديموقراطي وانفتاحه على التنوّع والعيش معاً.

   6. وآلمنا ما آلت إليه الأوضاع في عالمنا العربي، وكيف أن الحضارة العربية، التي بنيناها معاً بقيم المسيحية والإسلام، آخذة بالانهيار بسبب الصراع بين الإخوة المسلمين، وبين الأصوليين والمعتدلين، حتى بلوغ وسائل الاقتتال والعنف، والاعتداء على المواطنين الآمنين الأبرياء، وعودة إلى الوراء في العيش معاً على مدى ألف وأربعماية سنة، وفي قيم الحداثة والعولمة.

   في هذا الجوّ المؤلم يملي علينا دورنا كمسيحيين البقاء في أرضنا المشرقية، ونحن فيها مواطنون أصيلون وأصليّون منذ ألفي سنة، لكي نكون دائماً كما كنا عامل سلام وتآخٍ وتقارب بين جميع مواطنينا. إن إنجيل الأخوّة والمحبة والسلام، الذي أعلنه المسيح الربّ من على أرضنا الشَّرق أوسطيّة، يبقى الخبر السارّ الذي ننقله بالقول والمبادرات إلى مواطنينا في العالم العربي. وإنّنا باسم الأخوّة وحضارتنا المشتركة ندعو إخواننا في العالم العربي، ولاسيّما في العراق وسوريا ومصر، إلى إيقاف دوّامة العنف والحرب والنزاع، وإحلال السلام العادل والشامل، وإعادة الحضارة العربيّة والإسلاميّة إلى جمال رونقها وقيمها ودورها على مستوى الأسرة البشرية.

   7. ونتطلّع، مع إخواننا مطارنة الانتشار في القارّات الخمس، إلى حاجات أبناء كنيستنا الروحيّة والراعويّة والاجتماعيّة، ونثمّن ما حقَّقوا مع سائر جالياتنا من نجاحات في أوطانهم الجديدة، وقد زرناهم فيها وفي معظمها، فأدركنا تضحياتهم وإنجازاتهم وتعلّقهم بتقاليدهم وبوطنهم لبنان وسائر الأوطان العربيّة. وثمنّا مساهماتهم في نموّ البلدان التي استوطنوها بمواهبهم الخلّاقة على كلّ صعيد. ونغتنمها فرصة لنجدّد لهم شكرنا وتقديرنا والدعاء لهم بدوام الخير والنجاح.

   إنّنا نعمل معكم، أيها الإخوة الأجلّاء، على تثقيف شعبنا في الشرق وفي بلدان الانتشار على تراثنا الانطاكي – السرياني، الكنسي والروحي والثقافي، وقد اعتبره آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني تراثاً للكنيسة جمعاء، وشدّدوا على واجب المحافظة عليه كهويّة وثقافة بإنشاء رعايا ورسالات وأبرشيات (راجع القرار في الكنائس الشرقية، 4 و5، ومجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق39). كما نعمل معكم ومع بعثاتنا الديبلوماسية والمؤسسة المارونية للانتشار، على تطبيق توصيات المجمع البطريركي الماروني بتفعيل روابط التواصل بين المنتشرين والوطن الأمّ، وعلى تسجيل وقوعاتهم الشخصية وتأمين حقوقهم المدنية فيه وجنسيتهم اللبنانية الأصليّة.

   8. أجل إنّنا نبتهج بالروح القدس ونصلِّي بخشوع القلب ونقاوته، ونواصل صلاة يسوع، وصلاة الكنيسة من أجل أن يبلغ إنجيل السلام والخلاص إلى جميع الناس. لقد ارتوت صلاتنا هذا الأسبوع من ينبوع كلام الله الذي سمعناه وتأمّلنا فيه، ومن ينبوع الليتورجيا المقدّسة التي احتفلنا بها، كما ومن ينبوع الفضائل الإلهية: فبالإيمان بحثنا بتوق عن وجه الله، وبالرجاء صمدنا بانتظار تجلياته الخلاصية في تاريخنا، ومن محبة الله لنا استقينا محبتنا الراعوية. إنّنا نواصل مع شعبنا وأبناء أبرشياتنا صلاتنا وارتواءها.

ومعاً نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير