المونسنيور بيوس قاشا
أسئلة واستفسارات عديدة نطلقها كل يوم منذ إعلان مسيرة الربيع العربي المتعبة، وإذا ما كانت هناك ردود وأجوبة فلم تكن ولن تكن إلا تخمينية وتحليلية ليس إلا. فالوضع الذي يعيشه المسيحيون، وواقع مستقبلهم الإيماني والوجـودي واقع مخيف، هذا ما يعلنه الجميع، وهذا ما يؤكده الإرشاد الرسولي لكنائس الشرق الأوسط “شركة وشهادة”:”إن الأوضاع البشرية المؤلمة الناجمة عن الأنانية والقلق والرغبة الجامحة في السلطة قد تلد الإحباط وفقدان العزيمة” (82)، وأيضاً “إن خليفة بطرس لا ينسى محن وآلام المؤمنين بالمسيح ولاسيما العائشين في الشرق الأوسط، أن البابا يتحد معهم روحياً” (96). نعم، إنه واقع فيه الأصولية تدمر الانفتاح وتغلق أبواب الحوار وتهدم الجسور وترفض قبول الآخر، وتشوّه حضارة الثقافة عبر لقاءات وجوهها منظورة وخططها مستورة وآياتها طائفية ومناداتها عنصرية وفتاواها تكفيرية، وأخرى لا يعلمها إلا عالم الخفايا وما في القلوب والنيات، وفي هذا كله لا مستقبل ولا ثبوت ولا مجال غير إخلاء السبيل وحمل الحقائب من أجل الهجرة والرحيل، فتموت قضيتهم ويموت حسّهم الإيماني والوطني، وتبدأ حينئذٍ مسيرة الزمن المؤلمة.
الحقيقة والتاريخ
من دون شك أو أية نظرة تردد، فالحقيقة يسجلها التاريخ الأمين وهو أنه مهما قيل بحق المسيحيين ما هو إلا الحقيقة في الصميم، فهم سكان أصلاء لأوطانهم ومواطنون أصليون في بلدانهم، ولم يكونوا يوماً ضيوفاً أو لاجئين أو أقليات أو من المشفوق عليهم، بل حتى أصغر ذرة تراب تشهد لإيمانهم المسيحي ولحضارتهم الإنسانية ولتاريخهم الأمين لبناء دنياهم، وما ذلك إلا دعوة من الإرشاد الرسولي الذي يوصي بمسيحيي الشرق قائلاً:”اسعوا للعيش في اتحاد وشركة أخوية مع بعضكم في المحبة والاحترام المتبادل للشهادة” (36). وفي هذا كله عُرفوا بإخلاصهم والدفاع عن كرامة أوطانهم وشعوبهم وعملوا على بناء مجتمعاتهم، فكانوا شهداء واحتملوا الآلام والعذابات وقاسوا الحصار والظلم والاضطهاد، وسكبوا دماءهم دفاعاً عن مقدساتهم وتربتهم، وذلك ليكونوا دوماً شهوداً وشهداء لمسيرتهم الإنسانية والمسيحية، وما ذلك إلا انطلاقاً من حبهم وإيمانهم بالمسيح الحي له المجد، وهذا ما يدعو إليه الإرشاد الرسولي “إني أشجعهم على ترسيخ هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان” (35).
حكم… وفتاوى
وأمام هذا كله، بل ومع هذا كله، لا زالت الأفكار التكفيرية تخرج لنا بفتاوى القتل والطرد والتهجير والإبعاد وهدم الكنائس مدّعين أنهم لا يستحقون الحياة بل يضيفوا بوصفهم بأنهم خنازير بشرية، ويعلنوا ذلك على الملأ ولا مَن يحاسبهم أو يحاكمهم أو… أو… ففي الداخل نيات مبيَّتة ومخطط متَّفق عليه ومدفوع ثمنه من خيرات الأرض وإنْ كانت تحت أقدامنا، ويزيدوا من واجبهم أن يحاكموا مَن يشاءوا، فهم حاملو شريعة الله وإن الله كلّفهم بأن يكفّروا مَن يشاءوا فيضعوا الشعوب الأصيلة تحت حكم الفتاوى المخيفة والمدمِّرة، معلنين بقاءهم وموت الآخرين لتنحسر الساحة لمفسدي الدنيا وكبارهم وأسيادهم… إنها حالة الشيطان الرجيم ليس إلا. هذه المهمات الشريرة التي أعلنها الربيع العربي والغايات المقيتة التي تجسدت على واقع المسيرة أثّرت على وجودنا المسيحي تأثيراً أكيداً وواضحاً، تأثيراً مرعباً حتى النخاع، وبدأ عراقنا ورافديننا يفرغ من أصوله ومن أهله الأصلاء، والويل لشعوب تعيش بدون أصول، فمن المؤكد أن مسيرتهم ما هي إلا نحو الهاوية. واليوم _ وبعد الربيع العربي _ أصبح المسيحيون قلّة، وهذا ما خططوا له وأصبحت كلمتهم (المسيحيون) في مهب الريح وما هم إلا غرباء وإنْ ادّعوا وطنيتهم.
المسيحي شاهد
نعم، هكذا وبسبب ذلك واصلت عجلة الرحيل والهجرة دورانها ولن تتوقف حسب علمي بسهولة أو بإشارة أو بدعوة أو برجاء أو ببيان أو استنكار ليس لشيء لأن الأغلبية الساحقة التي هاجرت ورحلت إلى الأبد والذين لا زالوا أحياء في أوطانهم لم تعد تؤمن بما تتداوله الألسن وما تعلنه الأفواه، وما تلك إلا أصوات هزيلة وإنْ كانت محترمة، عبر الأثير، ولا تشعرهم بحسّهم الإيماني وحسّهم الوطني لا بل قد مات فيهم وشُيّع هذا الحس في نعوش الفناء، وأيضاً لأن كبار الزمن هم الواسطة في ذلك، وهم المشجّعون خفيةً في عدم البقاء والمكوث بدءاً بالأقرباء وآل البيت والأغنياء والأصدقاء، ويبقى الشاهد الوحيد للمسيح هو فقيرٌ وفقراء… وفي ذلك يقول الإرشاد الرسولي قائلاً:”المسيحي قبل كل شيء شاهد، والشهادة لا تتطلب فقط تنشئة مسيحية ملائمة لفهم حقائق الإيمان بل تنشد أيضاً حياة متواضعة مع هذا الإيمان نفسه للرد على متطلبات أناس زمننا” (67).
أصوات محبة
رغم كل الأصوات المُحبّة للبقاء، سارت قافلة المهاجرين في العراق، ولا زالت _ وفي أشدّها _ حتى الساعة وتنتظر مواصلة مسيرتها انطلاقاً من أبواب السفارات في الداخل والخارج… هذا في بلد إبراهيم. وانتقلت العدوى إلى مصر الفراعنة وسارت بكل رحابة إلى سوريا الحبيبة بمخطط أكثر خوفاً وأكثر ظلاماً، بمخطط لا نعرف القائمين عليه وما غاياتهم وإنما ما نعرف عنه أنه دمار لشعوب وبلدان، وهدم لأوطان من أجل بلدانهم وأوطانهم وشعوبهم، ولهم الحقوق ولغيرهم المآسي والهجرة عبر أحضان دافئة وأيادٍ مليئة وبدعوات مجانية عبر أجواء السماء، والوصول إلى حقيقة الحياة هي في الأرض ا
لتي إليها هرب قائين وإنْ كان صوت الله يلاحقه بمقتل أخيه هابيل.
فالأرض ماتت، والحسّ شُيّع، والإيمان بعيسى الحي قد مُحي من الوجود، وهذا في شرقنا ما يطيب لنا لأننا تماثلنا بالشعب الصاخب بصوته أمام بيلاطس زماناً “أصلبه، أصلبه”، واليوم “كفانا، كفانا”، فبرأبّا أصبح لفة همبركر وعلبة بيبسي، وقرار بيلاطس وثيقة الحكم المزيف أصبح حقيقة هي نفسها اليوم دعوة الأرض لملء البطون، مكرَّسة لله بعلمنا، ومقدسة لنا بحياتنا… والسؤال يبقى: حتى ما الخوف يملأ قلوبنا؟… حتى ما لا يتجسد إنجيل بشارتنا في عمق رسالتنا وحياتنا؟… حتى ما ننسى ما قاله ربنا يسوع المسيح عبر جبال اليهودية ووديانها وتلالها وشوارع الناصرة والجليل وقُراها في نهاراتها ولياليها، “لا تخافوا” (متى 31:10)، “أنا معكم” (متى 20:28)، وفي ذلك يقول الإرشاد الرسولي:”لا تخافوا من أحد ولا تضطربوا بل قدّسوا المسيح في قلوبكم وكرّموه رباً، وكونوا في كل حين مستعدين للردّ على مَن يطلب منكم دليلاً على الرجاء الذي فيكم” (1بط 13:3-15) (36).
أصوات مسؤولة
أمام هذه المآسي التي تشهدها شعوبنا المسلمة والمسيحية يندفع رؤساؤنا الكنسيون حاملو رسالة الشهادة والمحبة لإعلان حقيقة الحياة وإنْ كان من جانب واحد… إنهم أصوات مسؤولة، ويزرعون بذار السلام هنا وهناك عبر كلمات ولقاءات واجتماعات ومؤتمرات، وهذا ما يزرع فينا نحن القطيع الصغير الأمل والرجاء بأنّ هناك أصوات لا تنسنا وهناك مَن يشعر بأننا لا زلنا في الوجود، وهؤلاء الرؤساء نحمل إليهم كل احترام وتقدير، فهم رعاة أصلاء ورسل أمناء على حقيقة المسيح ووجوده في الكنائس والأديرة والشعوب والأوطان، وبأن الشهادة ستبقى أصيلة مهما قست مسارات الحياة وكلمات المنابر والكراسي، وفي ذلك نرجع إلى أيام الرسل الأولين الذين لم يخافوا حنّان وقيافا وأحكام كبار الزمن.
مسيحيون مؤمنون
ما يجب على المسيحيين هو أن يعيشوا حياتهم في أرض أجدادهم ويعملوا فيها ناظرين إلى رسالتهم الإنسانية والإيمانية قبل أي شيء آخر، فعليهم أن يكونوا مسيحيين مؤمنين ولا يكونوا فقط طائفة كأية طائفة مختلفة عنهم أو فئة اجتماعية في إحدى زوايا البلاد لأنها تدين بديانة مختلفة عن ديانة غيرهم، بل أن يحملوا إيمانهم في مسيرة إنسانيتهم دون خوف، ولا يُطلَب منهم ـــ أي من مؤمنينا المسيحيين ـــ أنْ يُظهروا الخنوع أمام المظالم والتكفير والتهجير وأنواع أخرى من الاعتداءات، وفي نفس الوقت لا يجوز للمسيحي أن يضع نفسه على هامش الوطن والمجتمع ولا أنْ يُستَغَل كَحَمَل فقير أو كعبد مطيع، ويقف حائراً في ما يدور حوله ويعلن أن ترابه يلفظه ولا خبزة له فيه، فهو لغيره وليس له، فتموت المسؤولية ويموت الحسّ وتضيع الحقيقة، بينما المسيحي الحقيقي يعرف إنه جزء من مجتمعه يشارك الجميع في البناء والتحديات في تحمل المسؤوليات عبر الحقوق الأكيدة والواجبات الجامعة.
مسيحيتنا في أوطاننا
صحيح إن الصراع في شرقنا أودى بنا إلى مآسي وقادنا إلى الضياع ولا يزال يقودنا إلى عدم الثبوت والاستقرار والضياع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى جيرانياً وحسيّاً وجغرافياً بسبب ما به امتلأت قلوبنا من حقد وكراهية وعدم قبول الآخر مقاسمته الحياة. فنحن نرى اليوم معاناتنا أكبر من طاقاتنا وتصورنا ولا مفرّ من احتمال آلام المسيرة مهما كانت قاسية، فالمآسي التي حلّت لم تتوقف حتى الساعة، فحتى ما يكون الاستقرار والقرار؟… وحتى ما تكون الحقيقة والكرامة؟… أيبقى الظلم بيلاطس آخر والقتل هيرودس، ويبقى الظالم حُرّاً يبني ويهدم حسب عقله وفكره الشرير ومصالحه الظالمة وأنانياته المدمِّرة، ويستهزئ بالأحرار الأبرياء الذين حوله ليكسبهم إلى دائرته المهينة والسير في خططه السوداء؟… وهذا ما يجرّ الناس إلى الهجرة والرحيل طلباً للطمأنينة ولمستقبل آمن لهم ولأبنائهم، وخوفاً من حكم الأقوى الأصولي الذي لا يراعي كرامات الإنسان وإنسانيته ورسالته.
فمهما يكن من محطات المسيرة المؤلمة، فالمسيحية تدعونا أن نقبل دعوتنا أي أن نحيا مسيحيتنا في أوطاننا وليس في بلد آخر في العالم، فالمسيرة ما هي إلا دعوة إلى حياة صعبة اليوم وغداً، وعلينا أن نفتح عيون عقولنا وندرك ونقبل ونعي إن دعوتنا هذه علينا أن نقبلها برحابة الصبر ونقبل البقاء مضحّين بالمنافع مهما كبرت ومهما قُدّمت والتي قد نجدها في المهجر أو بلد الرحيل.
الخاتمة
وفي كل الأحوال _ وأقولها بكل إيمان _ مهما كانت الهجرة حلاً لبعضٍ منها ومهما قلّ عددنا أمام الغرباء سنبقى وسيبقى منا مَن يشهد ليسوع المسيح في أرضه مهما عملت زوايا التاريخ على إخفاء الإيمان المسيحي، وهذا ما يدعونا إلى أن ننتبه لمخططات سياسية، عالمية، أنانية، تكفيرية، تتجاهلنا أو تجهل مسيحيتنا ومؤمنينا، فلا العدد له أهمية في مسيرة الإيمان، لأن الإيمان لا يحيا في الأعداد وإنما في القلوب التي تحمله إلى الآخرين وتذوب كملح وخميرة، كما إن العدد ما هو إلا مصيدة ولسان حال الصحافة والإعلام لنُتَّهم بأننا لسنا إلا أقلية بين الأقليات، فئة صغيرة بل ضعيفة بين الفئات الكبيرة فتكون الشفقة حلاً ورحمة علينا، وتضيع بذلك هويتنا ويُمحى مسيحنا، وهكذا شاءوا وهكذا خططوا وهكذا يجب أن يكون، فيُحكَم علينا بسياسات مفروضة وفتاوى مدمِّرة، ويعلن الاضطهاد أو واقعون تحته بعيش الصراع والتخطيط… ويا ويل
للمسيحي الخائف والذي أفرغ نفسه من الحس الترابي والإيماني، وأبعد عن قلبه عطاء الشهادة، ومحا رسالة الاستشهاد وكأنه إلى التراب عاد ولا يزال هو في الحياة. ولكن علينا أن نمتلئ من الرجاء الحي والأمل الأكيد أن الذي باسمه اعتمدنا يسير معنا في طريق عمّاوس، ويظهر معنا على شاطئ الجليل، ويزورنا في العليّة، ويرسلنا إلى العالم بأسره… نعم، بأسره وليس إلى وطن واحد أو بلد أبدي، بل إلى العالم كله… وما أصوات رؤسائنا الروحانيين إلا أصوات نبوية ومسؤولة في قول الحقيقة والشهادة أمام الله والناس، وما علينا إلا أن نقبل دعوتنا، ونحيا مسيحيتنا في أوطاننا وليس في بلد آخر، وعلينا أن نقبلها برحابة صدر مضحّين بالمنافع الدنيوية الزائلة مهما كبرت وزادت ومهما سهّلت لنا حياة الدنيا وأروت سهول الحياة، وأخفضت تلال المسيرة… فالحياة لا تعطي معناها إلا بالصليب، ولكن ما علينا إلا أن نكون أمام الصليب أُمناء .وما هذه الأصوات إلا أصوات مسؤولة ، ليس إلا، نعم وآمين.