في ختام زيارته الى الأراضي المقدّسة، أطلق غبطة السيد البطريرك بشارة الراعي، سلسلة من المواقف عبّر من خلالها، عن موقف الكنيسة المارونيّة النبوي والمفصليّ في تاريخها المعاصر، ورؤيتها العميقة والروحيّة والموضوعيّة الواضحة، لدورها وحضورها ومكانتها بين المكوّنات الشرق أوسيطة، ولاسيّما رؤيتها للبنان ورسالته في الشرق. فمن الآن وصاعداً، لم تعد الكنيسة المارونيّة على ما هي عليه في حركتها التقليديّة المتعارف عليها تجاه الأحداث التي تدور حولها وفي المنطقة ككل فالبطريرك مع البابا يفضلان «كنيسة مصابة ومجرّحة وملوّثة لأنها سلكت الطرقات، على كنيسة سقيمة بسبب الإنغلاق ورفاهة التمسّك بأمانها الخاص»[1]. فهناك تحوّل جذري قد حدث، وكأننا أمام حدث عنصرة تعصف من جديد في نهج الكنيسة وعلاقاتها (راج، أع 2: 1- 13)، وأدهش هذا العصف الروحيّ الجميع في لبنان، على غرار الناس التي تجمهرت يوماً حول الرسل في عيد العنصرة، حيث أخذتها الحيرة سائلة: « ما معنى هذا؟ على أن آخرين كانوا يقولون ساخرين: “قد إمتلأوا من النبيذ»(أع2: 13). نعم، هناك الكثير من المؤمنين داخل الكنيسة وخارجها تسأل عن المعنى الحقيقي لمواقف السيد البطريرك، وآخرون كالعادة يسخفون الحدث، يضعونه تحت إطار أيديولوجياتهم الواهية. فمن عليه أن يعرف المعنى الحقيقي لموقف الراعي، عليه أن يعود حتمًا الى 15 اذار 2011 يوم إنتخابه بطريركاً على الكنيسة المارونيّة، متخذاً شعاره النبويّ «شركة ومحبة»[2]. إنه إلتزام بطريركي عريق منذ القدم حمله السيد البطريرك كدعوة إلهيّة من قبل «…الرب الإله» (راجع،رؤ1: 8) اليوم الى الكنيسة المارونيّة. إنه إلزام وواجب شخصيّ وجماعيّ، يحتّم على أبناء مارون، تحقيق الشركة والمحبة معاً عبر تجسيد دعوة الروح قولاً وعملاً وفعلاً ومنهجاً وإستراتيجية.
إن حكمة غبطة أبينا السيد البطريرك بشارة الراعي، قد حررت الكنيسة المارونيّة: أولاً، من سطوة رجال السياسة وتدخلاتهم بواسطة فلان أو فلان؛ وثانياً، فصلت بشكل نهائي ولا عودة عنها، كل سياسة مراعاة تحاول أن تزج الكنيسة المارونيّة في نهج الحفاظ على خواطر التحالفات السياسيّة، أي ما يطلق عليه فرض سياسة «الإطراء والتملّق والمجاملة»[3] لكي تروض مواقف بكركي وتنسجم معها!! ثالثاً، موقف حازم تجاه الإخفاق الشديد تجاه أزمة إنتخاب رئيس الجمهورية، والوضع الإقتصادي المتردّي؛ رابعاً، قطع الطريق أمام أي جهة دينية – مسيحية، تريد تسويق سياسة حزب أو آخر داخل الكنيسة المارونيّة، فهذا الأمر قد إنتهى؛ خامساً، من الآن وصاعداً ستبرز بشكل واضح وجليّ صورة الكنيسة المارونيّة التي حاولت الإيديولوجيات السيطرة عليها.
لقد أعاد السيّد البطريرك للكنيسة المارونيّة، مكانتها الأولى والقويّة والتي لا بديل عنها في الشرق الأوسط. فما حققه أبينا الراعي، هو إنجاز نبوي ومفصلي في تاريخ الكنيسة المارونيّة، ولا يمكن لأحد بعد الآن أن يتسلّق الكنيسة المارونيّة أو يدخل إليها خلسة ليسرق الخراف (راجع، يو10: 1- 2). وما فعله الكاردينال الراعي، يشبه رعاية موسى لشعب الله، الذي أنقذه من جبروة فرعون وقسوة نظامه الجائر، فكانت الحرية المسؤولة والوطن الحرّ (راجع، خر3: 7- 12). وهو أيضاً على غرار أسلافه البطاركة رجال الله وخدّامه الأبطال، رجل المواقف البطولية والنبوية، لا يخاف أحد ولا يحابي الوجوه، ولا يتراجع عن مسؤوليته كأب وبطريرك الشرق. إن وجود السيد البطريرك في هذه الحقبة التاريخية التي تمرّ بها الكنيسة ،هي نعمة من السماء وإحدى علامات الأزمنة، يحث الرعاة والكهنة الرهبان والراهبات والموارنة أن يبنوا معه الكنيسة ويحافظوا عليها سنية مجيدة مقدّسة لا تجعّد فيها (راج، أف5: 27)، والتي لا يمكن لأحد من الساسة أو غيرهم، أن يملأها بأناه ومشاريعه السياسية وتطفلاته ونظرته الفوقية، أو حتى يملي عليها رأيه بالقوّة والتهديد والوعيد أو حتى ينتقدها، لأن ملؤها يسوع المسيح (راجع، أف1: 22) وهي عروسته.
حبذا لو أن الساسة الموارنة معه رؤساء الأحزاب والكتل والنواب، والرعاة والكهنة والشعب ألاّ ينتهجوا بعد الآن سياسة النعامة «وفي الكنيسة أيضاً هناك الوصوليّون! وهم كثيرون يقرعون أبواب الكنيسة ليحققوا أهدافهم… ولكن إن كنتم تحبون التسلق والوصول إذهبوا لتسلق الجبال لكن لا تأتوا الى الكنيسة بحثاً عن المراكز، فيسوع لا يحب الوصوليين الذين يبحثون عن السلطة. فمن أراد أن يقبل برسالة الشركة والمحبة، عليه أن يقبل بمعانقة الصليب مع خادم الصليب، غبطة أبينا البطريرك بشارة الراعي، الكليّ الطوبى[4].
[1] – البابا فرنسيس، فرح الإنجيل، فقرة 49.
[2] – البطريرك بشارة الراعي، شركة ومحبة، فقرة1.
[3] – مختصر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، فقرة 523.
[4] – زيارة البطريرك الراعي الراعوية الى الأردن، الجمعة 23 أيار 2014، خطاب غبطته أمام سفيرة لبنان في الأردن وامام الوفد المرافق.