حين تأملت وجه الأب رغيد وهو راقد في تابوته، في لحظة نادرة أخرى، خلت أن شفتيه كانتا تهمسان بكلمات، حب لأبناء بلده:
لقد متُّ فداءً عن مسيحي ووطني، وقبل أن يعانقني وطني مودعا ليُدفن، وأبقى بعيدا عنه، سبقت فاحتضنت كل ذرة في ترابه، ووضعت فيه كفني.. لحسن حظِّي، دافع عني أخي السني، الشيعي شيَّعني، الكردي أوصل موكبي إلى قريتي، والشبكي بعلم العراق لفَّني..
لحسن حظِّي أيضا أن الناس من مختلف القوميات والطوائف اجتمعوا، ففرحتُ كثيراً لأن موتي كان سبباً في رفاء ما تمزق بينهم.. جاءت البصرة تغسلني بماء ِشطِّ العرب، وَزَّعَتِ النجف وكربلاء “الهريسا” في عزائي، حَمَتْ أربيل والسليمانية “أمة عيسى”، اتَّحدت نينوى، الأنبار، وكركوك و…و…بكريات دمي. رفعنا كلُّنا راية العراق فوق رؤوس من ادّعوا أن قتلَ نفسٍ هو جهادٌ في سبيل الرحمن.
****
حين انقضت لحظاتتنا النادرة، التي جمعت أبناء العراق بقلوبهم واحاسيسهم وشهامتهم وكرامتهم.. و وانفض الجمع…
عدنا نفخر بقتل إنسان ونخجل أن نمسح دمعة أم فقدت أبناءها بالمفخخات بحجة الرجولة والبطولة، عن أيَّةِ رجولة وبطولة تتحدثون؟ وأنتم كالكواسر على الفرائس تستقوون.. بأيّ شهامة تنادون؟ فأرضكم اغتُصبت وانتم على سرائركم نائمون..
يا وطني العزيز
لماذا لم تعرف حضارتنا كيف تهتم ببناء الإنسان؟! منذ سومر وحتى الآن أطفالك يموتون، بما تفيدنا الحضارة إذا كان الإنسان فيك يعتبر قذارة؟!!! قيمته بما يملكه وما يلبسه.. وإذا نزعه صار شكله ولونه مثل العلقم والمرارة..
****
لماذا قتلتموه يا دخلاء العراق، ألأنه اختلف عنكم في تشخيص لون السماء؟ أم لأنه شرب المياه المعدنية ولم يشرب من مياهكم المقدَّسة؟ أم لأنه عبد الله الواحد ورفض عبادة الصخر؟ لماذا حرمتموه من حِضنِ أمِّه؟ ومن قبلة على جفونه من أخته؟ لماذا يا أرض العراق تحفظين الذئاب والحمام يُقتلُ أمام أبواب الجوامع والكنائس؟
كان بإمكانه أن يتركَكَ ويسافر لكنه لم يفعل.. لأنَّ ربه كان معه مثلما كان مع اسطيفانوس يوم رجموه.. وحبه لترابكَ جذبه كي يستشهد ويقَدِّمَ إيمانه بإلهه شهادة على أرضكَ وليس على أرض غريبة.. تلك الأرض أَحَبَّها لأن فيها كان الحب مهد البشرية، فيها خلق الله بحبه آدم وحواء..
****
مهما كانت الشدائد فأرضُك يا عراق ستعود، وسهولك الخضراء لن تموت، وأبنائك قد أتقنوا فنَّ الصمود، فهم صامدون، ولكن الصمود وحده لا يكفي، بل يجب أن تتحدوا وتتجاوزوا الخلاقات التي دمرت البلاد.. ومن أراد أن يخرِّب نطلب له الغفران، ولكننا لن نرضى أبداً مع الهوان..
الكاهن العراقي: هو الأب الشهيد رغيد عزيز كَنِّي الذي اغتيل في الموصل مع ثلاثة من رفاقه يوم 3 حزيران 2007.