"وأنا سأسألُ الآب ، فَيٓهبُ مُؤيِّداً آخر يكون معٓكم للأبد " (يوحنا ١٤ : ١٦)

عيد العنصرة :  هو عيد تأسيس الكنيسة . ففي مثل هذا اليوم بدأ الرسل يمارسون سلطانهم الإلهي بعد أن حلّٓ عليهم الروح القدس الذي وعدهم به السيد المسيح عندما قال : " وانا أسأل أبي فيهب مؤيداً آخر يبقى معكم إلى الأبد ". وقد أتمَّ السيد المسيح وعده فأرسل روحه القدوس وحلّ عليهم بعد مضي خمسين يوماً على صعوده إلى السماء ، كما جاء في  كتاب أعمال الرسل حيث قال :

" ولما أتى اليوم الخمسون كانوا مجتمعين في مكان واحد، فانطلق من السماء بغتة دويّ كريح عاصفة فملأ جوانب البيت الذي كانوا فيه ، وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار ، قد انقسمت فوقف على كل منهم لسان ، فامتلأوا جميعاً من الروح القدس وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم على منحهم الروح القدس أن ينطقوا " ( أعمال الرسل ٢ : ١ - ٥ ) . ومنذ ذلك الحين والروح مايزال يقيم مع الكنيسة وفيها يظل مقيماً إلى الأبد، ليذكّرها بالحقائق التي علمّها السيد المسيح، ويقدسّها ويقودها إلى الخير والحق والصلاح .

وهذا ما نريد أن نتأمل به اليوم ، بمناسة عيد العنصرة ، طالبين إلى الله الآب أن يحلّ نعمة روحه القدوس في قلوبنا لنفهم ما علمنا اياه ابنه الوحيد سيدنا يسوع المسيح ونعمل به .

١ – الروح يذكّر الكنيسة بتعاليم المسيح ووصاياه :

لا تُعلّم الكنيسه إلاّ ما علّمه السيد المسيح ، فهي قيّمة على كنوزه الإلهية.

ولا يمكنها أن تضيف أو تنقص شيئأ من الحقائق الجوهرية اللازمة للخلاص التي وكّلها إليها السيد المسيح . والروح القدس هو الذي يؤتيها ، كما آتى الرسل ، أن تتفهّم حق التفهُّم هذه الحقائق التي تُعلّمها وُيهديها إلى خير السبل التي تُمكّنها من إفادة الناس من هذه التعاليم ومصارحتهم بالحقيقة دون تردد ولا وهن . وهذا ما أشار اليه السيد المسيح بقوله : "ومتى جاء روح الحق، أرشدكم إلى الحق كله لأنه لا يتكلم من عنده ، بل يتكلم بما يسمع وينبئكم بما يحدث " . يوحنا : ١٦ : -١٣ ) .

والروح هو الذي يهب الكنيسة المعلمة القوة على السهر على تعاليم السيد المسيح وحفظها سالمة من كل شائبة ضلال ، صافية، ويُرشدها إلى اتخاذ ما ينبغى من التدابير التى تضمن سلامة الآداب والأخلاق المسيحية.

والروح هو الذي يُلهم الكنيسة أخيراً البحث فى كنوز العقائد المسيحية فيسعفها على اكتشاف ما يحتاج إليه المؤمنون في كل عصر من عقائد تساعدهم على أن يحيوا إيمانهم ، ثم تحدّد هذه العقائد بسُلطانها الإلهي فتجعلها إيمانية ، وهكذا ماتزال تُخرج ، كما قال السيد المسيح : " من كنوزها كل جديد وقديم  " ( متى ١٣ : ٥٢ ) ، يمكنها من مواكبة جميع العصور ، فتبقى رغم كرّ السنين ، على فتوّة ونضارة .

٢ - الروح القدس يُقدّس  الكنيسة:

وكما يُذكّر الروح القدس الكنيسة بتعاليم المسيح ، فهو كذلك يقدّسها بواسطة الأسرار الإلهية التي تُعطي إلينا النعمة . فبالعماد يو لد المؤمن لحياة جديدة  بالماء والروح القدس ، والتثبيت يمنحه الثبات في الايمان ، والتوبة تغسل خطاياه بدم المسيح ، والقربان يُغذيه بخبز الحياة ، والزواج يهبه القوة على الانتصار على التجارب ، والكهنوت يهبه السلطان الإلهي لتنمية الكنيسة، والمسحة ( سر مسحة المرضى ) تضمّد جراحه وتخفف الآمه ، وكل  هذه النعم التي ينالها بالأسرار المقدّسة ،  تأتيه بواسطة الروح القدس الذي  يدعوه الكاهن في كل منها ، فالروح هو الذي يقويّ بواسطة الأسرار ، ويعضّد ، و يقوي ،ويبذل العون والمساعدة .

ولا يعمل الروح القدس في الكنيسة بواسطة الأسرار وحسب ولكنه يعمل في أعماق قلب كل المؤمنين فيرشدهم إلى طريق الحق الصلاح ويقوده إلى مواطن القداسة. وهذا ما أشار إليه القديس أغسطينوس في إحدى عظاته فقال : " أو تريدون أن تحصلوا على الروح القدس ؟ اسمعوا أيها الأخوة ، إن الروح الذي يُحيي كلاّ من الناس يدعى النفس . انظروا ما تصنعه النفس في الجسد. فهي التي تحيي الأعضاء : فهي ترى بالعينين ، وتسمع بالأذنين ، وتشم بالأنف وتتكلم باللسان ، وتعمل باليدين وتسعى بالرجلين . فهي تقيم في كل من الأعضاء معاً لتُجرى فيها الحياة ...  فالوظائف مختلفة ولكن الحياة مشتركة .

هكذا هي كنيسة الله فتأتي العجائب بواسطة بعض القديسين، وتبشّر بالحقيقة بواسطة غيرهم ، وتحافظ على البتولية بواسطة سواهم ، وتحافظ على الأمانة الزوجية بواسطة آخرين ، وتجعل ما سوى ذلك بواسطة هؤلاء أو أولئك منهم ؛  لكل عمله الخاص ، إنما هم جميعاً لهم حياة مشتركة . وأن ما تقوم به النفس بالنسبة إلى الجسد، يقوم به الروح بالنسبة إلى جسد المسيح الذي هو الكنيسة . فالروح يصنع في الكنيسة ما تصنعه النفس في أعضاء الجسد ". ( العظة ٢٦٧ عدد ٤ ) . وهكذا يمكننا القول إن الروح يقدّس الكنيسة .

٣ - الروح القدس يقود الكنيسة ويرشدها:

إن الكردينال نيومن يقول : " إن المخلص ، بعد أن أتى إلى العالم ، لم يغادره بحيث تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل مجيئه . فهو باقٍ معنا ليس فقط بنعمته ،إنما بروحه الذى يقوم مقامه في الكنيسة وفى نفس كل من المسيحيين ... فالروح أتى خاصةً ليٍُمجّد المسيح . فهو نور مشع في الكنيسة وفي كل مؤمن يعكس المخلص في جميع كمالاته ووظائفه وأعماله ( خواطر في الكنيسة صفحة ٢٠٣ ) . فعندما تركنا المسيح ترك لنا رعاة وكلّ إليهم سلطاته الإلهية ووضعهم على رأس الكنيسة ووهبهم الروح القدس ليعضدهم في القيام بمهمتهم .

فالروح القدس إذاً هو من يقود النفوس ، بواسطة الرؤساء إلى تحقيق غايتهم وإرادة الله فيهم ، وهو الذى يحكم على أعمال المؤمنين في المجال الروحي ، ويؤمّن الكنيسة وحدتها والنهوض برسالتها رغم المظاهر المتعددة المتجدّدة وفقاً لحاجات الزمان والمكان ، وهو أخيراً ما يزال يذكي في قلب الكنيسة هذه اللهبة من الغيرة الرسولية التي تدفعها إلى نشر الحقيقة ومدّ العالم بالسعادة  و الحياة الحقيقة .

خاتمة:

وهكذا ترى أن الروح مازال يقيم مع الكنيسة وفيها، يُنير النفوس ويُحييها ويُعضدها، ويُعيّن لكل من الأعضاء وظيفته لبنيان جسد المسيح ، وسيظل مقيماً مع الكنيسة وفيها إلى الأبد  كما قال السيد المسيح ووعد : " وأنا سأسأل ألآب فـيٓهْب لكم مؤيّداً آخر يبقى معكم إلى الأبد " .