مزمور الْإبنِ الضّال

“… تردّدت كثيرا قبل أن أقرّر نشر هذا النصّ على ما فيه من حميميّة قد تدفع بالبعض إلى التّشكيك في مصداقيّته و إتّهامه ب”الإستعراضيّة” الرّوحيّة و التّنميق اللّغوي, إلّا أنّني إرتأيت في الأخير إلى نشره ضاربا بعرض الحائط كلّ ما يمكن أن يكون إتّهاما أو إعتراضا لعدّة أسباب أهمّها ما يعانيه الكثير من المسيحيّين من إضطهادات و تشكيك في إيمانهم في عصر لم يُفقد فيه السّلام الظّاهر بين أفراد المجتمع فقط بل  فُقد فيه أيضا سلام النّفس الإنسانيّة أمام ثقافة إستهلاكيّة متوحّشة سجنت الإنسان في بعد الإستهلاك و الرّكض وراء السلطة و المال و الجنس ممّا أفقده إنسانيّته وجعلنا نقف أمام مشهد “إنتحار قيمي” للبشريّة , من هنا يبرز “الرّهان المسيحي” -الّذي هو العمود الفقري لهذا النصّ- معلنا أنّ اللّه هو الضّامن الوحيد لإنسانيّة الإنسان و حرّيته, بل أكثر من هذا, وهو أنّ اللّه  الوحيد الّذي يستطيع رفع الإنسان إلى مرتبة الألوهيّة , و قد تعبّر الكلمات الّتي كتبها قداسة البابا السابق بندكتس السّادس عشر أكثرعن هذا بقوله: “إنّ الّذي يتّكل على اللّه لا يكون كدمية بيده, فلا يكون متقشّفا و لا تقليديّا و لا يتخلّى عن حريّته كليّا. بل يجد حريّته الحقيقيّة عندما يكون إتّكاله على الربّ بكلّ ثقة . هذه الحريّة الخلّاقة لا حدود لها في تحقيق الخير. و الإنسان الّذي يلتفت إلى اللّه لا يصغر بل يكبر و يصبح كبيرا و يتألّه وهو يحقّق ذاته.”  إنّنا نرتفع و نتسامى من خلال علاقتنا مع اللّه الّتي تتجلّى خاصّة في الحوار الحميميّ معه في الصّلاة, و هذا هو الاسلوب الّذي إعتمدته بطريقة عفويّة في هذا النصّ و ليس في هذا تجديد منّي لأنّنا نجد هذا الأسلوب في سفر المزامير و في كتابات آباء الكنيسة خاصّة منهم القدّيس أوغسطينوس في إعترافاته ,  إقتناعا منّي أنّ أجمل الكتابات الّتي تتكلّم عن اللّه هي تلك الّتي نتحدّث فيها مع اللّه , لأنّها بذلك تصبح صلواتا مكتوبة و الصّلاة هي مفتاح معرفتنا له و ترسيخنا فيه.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

في نهاية هذه المقدّمة -الطّويلة بعض الشّيء- أصلّي من أجل كلّ مسيحيّ المشرق و العالم أجمع ان يعرفوا رغم كلّ الآلام و المحاربات قيمة إيمانهم المسيحي , كما أرجو أن يساعد هذا النصّ على أن ننظر إلى اللّه نظرة تذهب بنا أبعد من النظرة التّديّنيّة الجوفاء نظرة تحملنا إلى عمق المعنى في محبّة اللّه, ختاما أطلب من كلّ قارئ الصّلاة لأجلي  أنا الّذي أحتفل هذه الأيام بالسنة الرّابعة لنوالي سرّ المعموديّة الّتي بها صرت إبنا للّه و عضوا في الكنيسة الكاثوليكيّة المقدّسة بعد ان كنت غريبا منتمي لديانة علّمتني أن أكون عبدا و أجيرا. و الآن ها أنا أمضي مع اللّه في مغامرة وجوديّة أكتشف على ضوئها ذاته و ذاتي مبشّرا أبناء جنسي أن يتوبوا و يؤمنوا بالإنجيل , و مشجّعا كلّ حامل لإسم المسيح قائلا:  أيّها المسيحي إرفع رأسك لأنّ الّذي فيك أقوى من الّذي في العالم.  آمين

                                                                                              ع.ق

                           *                    *                    *                    *                     *     

أحبّك يا ربّ لأنّني أضعف من أن أقاوم حبّك , و أجبن من أن أكون بعيدا عنك, لأنّ محضرك غنيّ بالأمان حتّى و إن كنتَ حاضرا بالغياب أو غائبا بالحضور, أحبّك دون غاية أخرى سواك, و ليس لي سوى ضعفي دليل على أنّني عاجز على أن أحبّك دون  حبّك الّذي دفقته أوّلا في داخلي, لقد كنت قبلك دودة لا إنسان , دودة تنخر الموتى و تسفّ التّراب , دودة في مدى العالم الرّازح تحت ثقل الخطيئة و الموت , تنتظر أن يدوسها حذاء لتفنى و تختفي كالبخار في وجه العدم .

بلا غاية كنت أسعى سوى الزّحف على أديم الشّهوة و الغريزة, بلا غاية سوى أن أشبع وجودي من وجودي و شبقيّتي من شهوتي, فلا أحصد غير الخواء و أشبعُ, أشبعُ من جوعي و من ألمي المستتر تحت بريق إبتسامتي “البلاستيكيّة” و نجاحاتي “الورقيّة”, الّتي يذوّبها زبد بحار الأوجاع الهائجة في داخلي, فيضحك فمي و ينتحب قلبي بين الضّلوع.

لقد كنت دونك “لاشيئًا سلبيًّا”  , موجودا دون وعي بالوجود بلا خريطة و لا وجهة, بلا زاد و لا معرفة تنوّرني لأدرك من أين أتيت و إلى أين أمضي, كنت لا أختلف عن ورقة الخريف السّاقطة الّتي تتقاذفها النّسائم و الرّياح, هكذا كانت تتقاذفني أمواج الظّروف و الأفكار مع إختلاف وحيد هو أنّني أدّعي الصّلاح و الوعي و الثّقافة و الجمال , و لم يكن لي من هذا سوى ما أدّعيه أمّا الحقيقة كانت أنّني عبد للخطيئة غريب عن وجودي, عن ذاتي و عن العالم , غريب عنك, غريب عن الحياة.  و ها قد علمت أنّك وحدك الإيجابيّ الّذي يصيّرنا “إنسانا”  متأصّل في إنسانيّته معانق للألوهيّة مكتملة أركان وجوده, أنت وحدك الإيجابيّ المنتصر على سلبيّاتنا العديدة في معادلة الوجود, وحدك المنتصر على الخطيئة و المرض و الكبرياء و الجحود و الألم و الشّهوة و الخيانة و الهوان, المنتصر على صمت الموت في قلوبنا فتصيّره صمتا ممتلئ الكلمات , صمتا يفيض بالحياة و المعنى , صمتا أكثر تعبيرا عن الحبّ من فوضى الحواس و لغو الكلام, “صمت حبيبين وجها لوجه في غرفة مظلمة. ”  كما قالت إحدى قدّيساتك.

كنتُ قبلك موجودا دون وجود, لأنّ الوجود الخالي من محبّتك أشرّ من العدم, كنتُ صفرا و لازلت صفرا لكنّك الآن عن يميني فلن أتزعزع برياح الظّروف و عواصف الغواية و التّجارب و المحن, أنت عن يميني واحد أحد و أنا صفرٌ , فصرنا عشرة, و أكملتُ بك طاعتي لناموس الوصايا و صار بك وجودي وجودا, و صرتَ أنت برّي وصلاحي و قداستي, بعد أن كنت لعبة تافهة في يد الشرّير , و لا فضل لي سواك لأنّك أنت من جئت بي إليك أيّها السرّ الأعظم,  و أنت من غيّرني و ألبسني ثياب البرّ و طهّرني من ذنوبي و أدراني بمحبّته , و أنت من تثبّتني أمام هجمات العدوّ , و أنت من تغسل قلبي بدموع توبتي الحرّى حينما أقع في الزّلل بعيدا عنك, فتعود و تحييني بغفرانك و تدرّبني في الحقّ كما تعلّم يداي القتال, لأنّك صيّرتني جنديّا لك بعدما ختمت قلبي بختم البنوّة,  و علّمتني أنّني إبن واعٍ في كلّ لحظة أنّني محبوب و حرّ, و حريّتي هي أرضك الخصبة الّتي تنمو فيها ثمار الفضيلة , وهي المجهر الّذي أفحص على نوره ذاتي لأستئصل منها الرّذائل كيما أكون كاملا فيك, أعلم على الرّغم من كلّ المحاربات و الضّيقات أنّك معي حتّى و إن لم أشعر بك, أعلم أنّك ستقودني من وجه الضّيق إلى رحب لا حصر فيه, و أنّك ستصيّر طريقي كاملا رغم إعوجاجي , و أنّ دموعي في زقّك و آلامي مكتوبة أمامك في سفْرِكَ, و أنّك ستحوّلها لي إلى ثقل مجد أبديّ بعد أن تكمل بي مشيئتك في حياتي .

أحتاج لك وحدك خلال مغامرتي في هذا الوجود, لأنّني بمفردي لا أستطيع فعل شيء أمام وحوش  الظّلام و مستنقعات الخطيئة الّتي تملئ طرق العالم المدقع في شهوانيّته و فردانيّته حتّى الثمالة , أحتاج إلى أسرار كنيستك كيما أداوم فيك , أحتاج إلى مواهب روحك كي أتمّم قصدي لاسيّما التّقوى حتّى أكون ملتصقا بها فيك فألج بها في سرّك, و الحكمة لأشهد بها عنك, لأنّك أنت أيّها الحكمة الأزليّة قد قلت لنا: “و أنا أعطيكم فما وحكمة لا يستطيع جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها.” {إنجيل لوقا 15:21} , أحتاج إلى أمّك/أمّي حتّى ترعاني بحبّها و شفاعتها و ترضعني من حليب تواضعها حتّى أكبر في التّأمّل فيك كما تأمّلتك هي في قلبها.

أعطني يا ربّ ما أحتاج إليه حتّى أكون كاهنا/خادما لمذبح الحبّ الإلاهي , شاهدا أنّك
وحدك الحقيقة العظمى و كاشف سرّ الوجود لمن يطلبونك بالصّدق و يتبعونك بالرّوح و الحقّ , حتّى يعلم الجميع أنّك يا يسوع المسيح وحدك القمّة , و ماقبلك كان تمهيدا لك , و ما بعدك ليس إلّا تدنٍّ و إنحدار.أعطني لسانا يشهد عنك, لسانا كالسّيف يفصل بين الظّلمة و النّور , لأنّ عصرنا رماديّ يا إلاهي يلبس فيه السّواد البياض , و يلبس فيه العدوّ ثوب المحبّ , و تحمل فيه الرّذيلة رداء الفضيلة , و بإسم الإنسانيّة ينتهك الإنسان, و بإسمك يا اللّه يعذّب الإنسان الإنسان و يقتل الإنسان الإنسان. هبْ لي يا إلاهي حكمتك حتّى يعرف البشر أنّ الموت بكلّ انواعه ليس المصير الّذي جعلته لهم , بل قد جعلوا لهدف أسمى وهو مشاركتهم الألوهيّة معك و بك, حتّى يدركوا من بعد عميهم أنّهم كانوا في جبّ الهلاك غارقين في طين الحمأة و مزبلة الشّبقيّة و الانانيّة و العقد النّفسيّة , مسلسلين في قتام الظّلام, بلا إلاه ولا رجاء … يدركوا حقيقتهم السّابقة الّتي لم يروها و لم يشعروا بها حتّى أشرق في قلوبهم نورك و عرفوك أنّك صالح و مستقيم طويل الأناة و كثير الرّحمة و الرّأفة, دعَوْتَهم للحياة و قد أنتنوا في قبور شهواتهم و خطاياهم, مثلما دعوت أليعازر و دعوتني أنا , ليعلموا انّ العلاقة معك لا تقوم على تديّن زائف بقدر ماهي : دعوة للحياة , الحياة الحقيقيّة و الأبديّة فيعرفوك أنت أيّها الآب الكليّ القدرة و يسوع المسيح الّذي أرسلته بقوّة روحك القدّوس.

ليكن هذا القرن الواحد و العشرين , قرن التّوبة و الإيمان و التّجديد و التّبشير, قرن العودة إليك و الشّهاد عنك بكلّ تجليّات الحضارة و الثّقافة الإنسانيّة: بالعلم و الفنّ و الأدب و الشّعر و الموسيقى و الكلام و الخطابة , بالنّحت و الرّسم و  حتّى الصّمت, لتكن حياتنا شهادة و إستشهادا يوميّا و متواصلا حتّى تزيد أنت فينا و ننقص نحن إلى أن نموت عن ذواتنا فتشهد أنت عن نفسك للآخرين من خلالنا. ليكن هذا القرن الواحد و العشرين زمن العودة من السّبي لشمال إفريقيا و العالم العربيّ, زمن إفتقاد و بناء لأطلال كنائس قرطاجة و نوميديا , زمن عودة الخراف الضّالة إلى بيعتك المقدّسة.

أنت الّذي قلت “ليكن نور” فكان نور , فليكن نورك ساطعا في هذا القرن على كلّ العالم رغم كلّ ما يحصده الإنسان الآن بسبب الإبتعاد عنك , ليسطع نورك من جديد على القلوب و إرسل لنا روحك فيتجدّد وجه الأرض.

المجد لك وحدك أيّها الثّالوث القدّوس , يا خالق الإنسان على صورتك, يا مخلّص الإنسان من براثن الخطيئة الأصليّة بفداءه , يا مؤلّه الإنسان و موحّده بك, فليتمجّد إسمك على الأرض كلّها . آمين .

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

Atef Cyprien

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير