بعد أن نقلنا أمس سيرة مختصرة للقديس أنطونيوس البادواني، ننقل لكم اليوم ملخصًا عن كتاباته، كان البابا بندكتس السادس عشر قد قدمه خلال تعليم الأربعاء في الفاتيكان نهار 10 شباط 2010.

*

في الفترة الاخيرة من حياته، كتب أنطونيوس دورتين من العظات، عنوانها "عظات الأحد" و "عظات حول القديسين"، مكرسة للوعاظ ولمعلمي المدارس اللاهوتي في الرهبنة الفرنسيسكانية. يعلق فيها على نصوص الكتاب المقدس التي تقدمها الليتورجية، مستخدمًا التفسير الآبائي-الوسيطي ذي المعاني الأربعة: الحرفي أو التاريخي، التشبيهي  أو الكريستولوجي، الأدبي أو الأخلاقي، والأخيري الذي يتعلق بالحياة الأبدية. نحن بصدد نصوص لاهوتية-وعظية، يتردد فيها صدى الوعظ الحي، الذي يقدم بواسطته أنطونيوس مسيرة حياة مسيحية. إن العظات تذخر بغنى التعاليم الروحية، ولذا أعلنه البابا بيوس الثاني عشر، في عام 1946، ملفانًا للكنيسة، سابغًا عليه لقب "الملفان الإنجيلي"، لأن تلك الكتابات تنضح بعذوبة وجمال الإنجيل؛ وحتى اليوم نستطيع أن نقرأها ونستمد منها فائدة روحية كبيرة.

يتحدث أنطونيوس في هذه العظات عن الصلاة كعلاقة حب، تدفع الإنسان إلى الحوار العذب مع الرب، خالقًا الفرح الذي لا يوصف، والذي يشمل بدفء النفس المصلية. يذكرنا أنطونيوس أن الصلاة بحاجة إلى مناخ صمت لا يتعلق بالانفصال عن الضجيج الخارجي، بل هو خبرة داخلية، تهدف إلى إزالة التشتتات التي تولدها اهتمامات النفس. بحسب تعليم هذا الملفان الفرنسيسكاني الرفيع، الصلاة تتألف من أربعة مواقف لا تنفصل، والتي يقدمها أنطونيوس باللاتينية هكذا: obsecratiooratiopostulatiogratiarum actio. يمكننا أن نترجمها بهذا الشكل: انفتاح القلب بثقة على الله، التحاور معه بعطف، تقديم حاجاتنا إليها، تسبيحه وحمده.

في هذا التعليم في الصلاة نجد أحد خصائص اللاهوت الفرنسيسكاني الذي كان أنطونيوس من رواده، أي الدور الذي يُرسى للحب الإلهي، الذي يدخل في إطار العواطف، الإرادة، القلب، والذي هو أيضًا المنهل الذي تصدر عنه المعرفة الروحية، التي تتجاوز كل المعارف.

يكتب أنطونيوس أيضًا: "المحبة هي روح الإيمان، هي التي تحييه؛ من دون المحبة، يموت الإيمان" (Sermones Dominicales et Festivi II, Messaggero, Padova 1979, p. 37).

وحدها النفس التي تصلي تستطيع أن تتقدم في الحياة الروحية: هذا هو الموضوع المفضل في وعظ أنطونيوس. فهو يعرف جيدًا عاهات الطبيعة البشرية، والميل إلى السقوط في الخطيئة، ولذا يدعو باستمرار إلى محاربة الميل إلى الطمع، الكبرياء، الدنس، وإلى عيش فضائل الفقر والسخاء، التواضع والطاعة، العفة والطهارة. في مطلع القرن الثالث عشر، في إطار إعادة نشوء المدن ، وازدهار التجارة، كان ينمو عديد الأشخاص اللامبالين نحو حاجات الفقراء. لهذا السبب، يدعو أنطونيوس مرات عديدة إلى التفكير بالغنى الحق، غنى القلب، الذي يجعل الأشخاص صالحين ورحماء، ويجمع كنوزًا للسماء. كان يحض الناس بالقول: "أيها الأغنياء، صيروا أصدقاء للفقراء، استقبلوهم في بيوتكم: وسيكون الفقراء هم الذين سيستقبلوكم في المنازل الأبدية، حيث جمال السلام، ثقة الأمن، وغنى هدوء الاكتفاء الأبدي" (المرجع نفسه، ص 29).

أليس هذا التعليم هامًا جدًا بالنسبة لنا اليوم أيها الإخوة، حيث تؤدي الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار إلى إفقار عدد غير قليل من الأشخاص، وتولّد حالات البؤس؟ في رسالتي العامة "المحبة في الحقيقة" أذكر: "الاقتصاد بحاجة إلى الأخلاق لكي يقوم بدوره على ما يرام، ولا إلى مبادئ أخلاقية مبهمة، بل أخلاق تحترم الشخص البشري" (عدد 45).

في اتباعه لمدرسة فرنسيس، يضع أنطونيوس دومًا المسيح في محور الحياة والتفكير، والعمل والوعظ. وهذا بعد آخر يميز اللاهوت الفرنسيسكاني: محورية المسيح. فهو يتأمل بطبية خاطر، ويدعو إلى التأمل بأسرار بشرية الرب، وبشكل خاص، سر الميلاد، الذي يولد مشاعر حب وعرفان نحو الصلاح الإلهي.

وكذلك النظر إلى المصلوب يلهمه أفكار عرفان نحو الله واحترام نحو كرامة الشخص البشري، لكي يستطيع الجميع، مؤمنون وغير مؤمنون، أن يجدوا معنى يغني حياتهم. يكتب أنطونيوس: "المسيح، الذي هو حياتك، هو معلق أمامك، لكي تنظر إلى الصليب كمرآة. هناك يمكنك أن تعرف كم كانت جراحك مميتة حتى أن ما من دواء يستطيع شفاءها، إلا دم ابن الله. إذا نظرت جيدًا، يمكنك أن تحدس ما أعظم قيمتك وكرامتك البشرية... ليس هناك مكان آخر يستطيع الإنسان أن يجد فيه قدر قيمته، أكثر من النظر في مرآة الصليب" (Sermones Dominicales et Festivi III, pp. 213-214).

أيها الأصدقاء الأعزاء، فليشفع أنطونيوس البادوفاني، المكرم جدًا لدى المؤمنين، بالكنيسة جمعاء، وبشكل خاص بالذين ينكبون على الوعظ. فليستلهم هؤلاء مثل القديس، وليعتنوا بضم العقيدة الوطيدة والصافية، مع التقوى الصادقة والحارة، ومع تأثير التواصل. في هذه السنة الكهنوتية، نصلي لكي يقوم الكهنة والشمامسة بخدمة إعلان وإحقاق كلمة الله إلى المؤمنين بثبات، وخصوصًا من خلال العظات الليتورجية. فلتكن عظاتهم إيضاحًا فعالاً لجمال المسيح الأزلي، تمامًا كما كان ينصح أنطونيوس: "إذا وعظت بالمسيح، فهم يذيب القلوب القاسية؛ وإذا استدعيته، فهو يحلّي التجارب المرة؛ وإذا فكرت به فهو ينير القلب؛ وإذا قرأته فهو يشبع الفكر" (Sermones Dominicales et Festivi III, p. 59).