قررت أن أعالج هذه المسألة بعد تردد رغم امتعاضي بسبب تعليقات عديدة رأيتها حول تغريدات البابا وحول مبادراته الأخيرة (زيارة الأراضي المقدسة، الصلاة مع الرئيس محمود عباس والرئيس شيمون بيريس). التعليق الذي أقنعني بأنه يجب أن أكتب هو التالي: “@Pontifex_ar اِبقَ رجل دين وكفى لعب على خطوط السياسة”. جاء هذا التعليق – ويا للمفاجأة! – على تغريدة البابا الأخيرة: “هناك دائما خطر تجاهل الآلام التي لا تمسنا بشكل مباشرة. دعونا نتحرك، ونصلي من أجل السلام في سوريا“. هل يفاجئكم التعليق؟ طبعًا، ولكن على ما يبدو، هناك من يحتاج لتوضيح بهذا الشأن. بغضّ النظر عن أنه هناك من لا يقتنع حتى لو “أضأت أصابعك العشرة” كما نقول في العامية اللبنانية، اسمحوا لي أن أذكر، من يشارك هذا الانتقاد أن البابا:
– أولاً، لم يأخذ موقف مع أحد أم ضد أحد.
– ثانيًا، أنه لم يرفع إلا صلاةً للسلام.
– ثالثًا، دعا الناس إلى عيش منطق التعاضد والتضامن. فالآن الكثيرون منا يتعرضون لتجربة أن ينسوا سوريا والعراق وسواها من المناطق الدامية، مركزين كل انتباههم على كرة القدم. بالطبع، يحق لنا أن نتمتع بخبرة المونديال، ولكن ليس على حساب تناسي كل مسائل العالم (من قريب ومن بعيد).
– رابعًا، في دعوته إلى السلام، لا يتصرف البابا كرجل سياسة، بل كرجل دين، وبالتحديد (بما أن الأديان غالبًا ما تكون سببًا للعنف والقتل) كرجل مسيحي، وبالتحديد أكثر، كتلميذ ليسوع المسيح في جوهر الإنجيل الأعمق، أعني بهذا “التطويبات”: “طوبى للساعين إلى السلام، فإنهم أبناء الله يدعون” (متى 5).
– خامسًا، في دعوته إلى عدم تناسي آلام الآخرين، يعبّر البابا عن جوهر الإنجيل، الذي هو رسالة أخوة: “إحملوا بعضكم أثقال بعض، فبهذا تتمون شريعة المسيح”.
هذه التغريدة، إنما تعبّر عن موقف البابا المستمر من هذه القضايا الحساسة: مقاربته ليست البتة مقاربة سياسية، بل هي مقاربة إنجيلية تنبع من محبة المسيح لكل إنسان ولرغبته في أن يكون للجميع الحياة والكرامة والحرية. لماذا اخترت العنوان أعلاه إذًا؟ لأني رأيت الكثير من التعليقات التي تطالب البابا بتدخل أكبر “وأكثر فعالية”. فهناك من علّق على دعوته للصلاة في الفاتيكان: “تصلون منذ عصور ولم يتغير شيء”. وهناك من قال: “كفى كلامًا نريد أفعالاً”. وهناك من طالب البابا بـ “الضغط على إسرائيل دون مراوغة” بل هناك من اتهمه بـ “الصهيونية” لأنه زار إسرائيل (!).
أيها الأحباء، لا أريد أن أكرر ما قلته في مقالة سابقة بعنوان “لماذا لا يوقف البابا الأعاصير؟“. ما أريد أن أضيفه الآن هو التالي: البابا ليس رجل سياسة ولا يقوم بتدخلات سياسية، دوره هو دعوة الناس إلى الالتزام بما ينص عليه الضمير الإنساني المشترك. البابا لا يملك لا سلاحًا ولا صلاحية لفرض مبادئه على الأشخاص والأمم. وحمدًا لله لقد ولت منذ عصور تلك الأيام عندما كان البابا رجل دنيًا وأقرب إلى ملك أرضي منه إلى خادم الرب يسوع. البابا، كخليفة بطرس وكتلميذ يسوع يدعو بوداعة المحبة لا بغطرسة الضغط. البابا لا يملك جيوشًا وليس لديه أممًا “كاثوليكية” تطيع أوامره.
عندما غزت أميركا العراق، البابا يوحنا بولس الثاني عبّر بشكل مستمر عن عدم قبوله وعدم تأييده للحل العسكري، ولكن هل سمع له جورج بوش؟ كلا! هل كان باستطاعته أن يفعل شيئًا آخر؟ – كلا!
البابا يفعل كل ما بوسعه وأكثر من ذلك لكي يسهم في مواجهة الظلم في العالم:
– من خلال التذكير بالقيم.
– من خلال استنكار الأحداث الإجرامية والتعبير عن رفضه لها ورفض أي كاثوليكي مؤمن لها.
– من خلال المؤسسات الكاثوليكية التي تعمل في الأراضي المنكوبة لمساعدة المظلومين والفقراء والمهجرين.
– من خلال دعوته المستمرة والملحة – كضمير العالم – لكي يذعن الأشخاص إلى صوت الصواب والخير: “السلام لا يُولد من رحم الحروب”.
لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك. ليس دوره وليس له سلطان دنيوي يسمح له بهذه الرفاهية.
ولمن ينتقد الصلاة أقول ببساطة: إن كنت لا تؤمن، لن تستطيع أن تفهم مبادرات الإيمان. أما نحن فنؤمن بصلاة الصِّدّيق، تلك الصلاة التي أوقفت الحرب العالمية الثالثة التي كانت ستبدأ في سوريا الصيف الماضي.
أختم هذه المقالة بكلمات يسوع بالذات: “فَبِمَن أُشَبِّهُ أَهلَ هذا الجِيل؟ ومَن يُشبِهون؟ يُشبِهونَ أَولاداً قاعدينَ في السَّاحَةِ يَصيحُ بَعضُهم بِبَعضٍ فيَقولون:’زَمَّرْنا لَكُم فلَم تَرْقُصوا نَدَبْنا فلَم تَبْكوا‘. جاءَ يوحنَّا المَعمَدان لا يأكُلُ خُبزاً ولا يَشرَبُ خَمراً، فقُلتُمْ: لقَد جُنَّ. وجاءَ ابنُ الإِنسانِ يأكُلُ ويَشرَب، فقُلتُم: هُوَذا رَجُلٌ أَكولٌ شِرِّيبٌ لِلْخَمْرِ صَديقٌ لِلجُباةِ والخاطئِين. ولكِنَّ الحِكمَةَ قد بَرَّها جميعُ بَنيها” (لو 7). من له أذنان سامعتان فليسمع. فخير أن نضيء ولو شمعة من أن نلعن الظلام. البابا قد أضاء شموع عدة، وهي خير من انتقاداتك، كائنًا من تكون.