كيفَ يوحي المسيحُ إلى الإنسان بسرّه الحقيقيّ إنسانـــًا خُلق على ” صورة الله كمثاله ” ؟ … ونحنُ نعرف أن المسيحَ ( كجسد)، لم يكن موجودًا بعدُ ؟!
إنّ هذا السؤال الأنثروبولوجيّ ، يوصلنا إلى أن نُدرك كيف يدعو الآبُ الإنسان إلى أن يكون على مثال ” صورة الإبن ” ، وإلى الإتجاه نحو ” مجيئه الثاني ” بإعداده إعدادًا فعّالا ، وكيفَ يتمّ كلّ ذلك بتأثير من الروح القدس . وكما ذكرنا في الحلقة الخامسة ، بإنّ سرّ الإنسان لا يتّضح حقا إلاّ في سرّ الكلمة المتجسّد ” .
إنّ يسوع المسيح ، هو الذي يوحي إلى الإنسان بملء كيانه الإنسانيّ : يسوع المسيح في سرّ بنوّته الإلهيّة ووضعه الآدميّ الذي يمتدّ من ” تجسّده ” إلى ” تمجيده ” الذي سينكشف تمامًا عند مجيئه الثاني ( الإنسان الكامل) .
قراءة َ خلق الإنسان ، هي قراءة ثالوثيّة بصريح العبارة . ذلك بإنّ قرار الخلق يعودُ إلى الآب ، وتنفيذه إلى الإبن ، وتكليله وتزيينه ونموّه التاريخيّ إلى الروح القدس : فكلّ شيء ٍ يأتي من الآب بالإبن في الروح القدس ؛ وكما عبّر القدّيس باسيليوس أيضا عن دور كلّ أقنوم من الأقانيم الثلاثة : ” إعتَبرْ أوّلا أن العلّة الآولى لكلّ ما خُلق هي الآب ، ثمّ أنّ العلّة الفاعلة هي الإبن ، ثمّ أنّ العلّة المُكمّــــلة هي الروح القدس . ولذلك ، فبفضل ِ مشيئة الآب كانت الأرواحُ السماويّة ، وبفعل الإبن أتت إلى الوجود ، وبحضور الروح القدس صارت كاملة . فإعتمادًا منذا على أقوال الآباء ، يمكننا أعتبار الإنسان على صورة الثالوث كـــ ” مثاله ” :
1- الآب عطاءٌ مطلق : يمنحُ إبنه أبوّته ، كما يمنحه بنوّته ويشركه في بثق الروح . وفي خلق الخليقة ، وذلك نموذجٌ للإنسان المدعوّ إلى أن يكون رحيمًا ( لوقا 6 : 36 ) ، وكاملا (متى 5 : 48 ) .
2- الإبنُ إقتبال وتبادل : يقتبلُ من أبيه كلّ ما يمنحهُ إيّاه ولا يحتفظ به ، بل يبادله إيّاه ، ذلك بأن كلّ ما هو للآب ، هو للإبن . وما هو للإبن هو للآب ( يوحنا 17 : 10 ) .
3- الروح القدس ، شركة الآب والإبن ووحدتهما ، وحبّهما (روم 5 : 5 ) . هوة الذي يجعلُ الإنسان يعيشُ في علاقة بالآب والإبن وبأخيه الإنسان ، على هذا النمط .
يقولُ القدّيس غريغوريوس النيصيّ : ” المسيحيّة ، هي الإقتداء بطبيعة الله ” .
ووجوديّا ، تتضمّن ” الصورة ” ، جوانبَ أنثروبولوجيّة وجودية منها : المحبّة ، الإرادة ، الحريّة ، العقل ، الفكر ، العلاقات البشريّة والإجتماعيّة ، والحبّ والإنجاب ، والخلود والحياة الأبديّة – فكما يقولُ البابا بنديكتوس السادس عشر ، أنّ الإنسان منذ خلقه ، معدّ للخلود ” – وحتى الجسدُ بفضل قيامة المسيح . وأنّ الصورة تجعل الإنسان ” شخصًا مناقبيّا ” ؛ أي ” أخلاقيا ” ، قادرًا على تحمل مسؤوليّة قراراته ، وأفعاله ، وعلاقاته .
إنّ التيار الشخصانيّ المعاصر ، يعتبرُ أنّ الله طبعَ صورته ومثاله في ” شخص ” الإنسان ، إذ إنّ الله نفسه ” أقنومٌ ” أي ( شخص ) . والمعروف أنّ الشخص كائنٌ علائقيّ على صورة الأقانيم الإلهيّة ( تمنحُ بعض الفلسفات إمتيازًا خاصّا في الصورة كــ ” ذهن ” الإنسان ، أو أستقامته ، أو سيادته ، أو تمييزه الجنسيّ ) .. أمّا نظرة الكتاب المقدس فتشمل جميع أبعاد الإنسان ، إذ إنها تُلقي نظرة شاملة إليه . يقول القديس إقليمس الإسكندريّ : إنّ صورة الله هي ” كلمته – والكلمة الإلهيّ ، أي النور الذي هو النموذج الأصليّ للنور ، هو الإبنُ الحقيقي للفكر ( الآب ) – وصورة الكلمة ، هو الإنسان الحقيقيّ ، أي الفكر الذي في الإنسان ، المخلوق على ” صورة الله ومثاله ” ، لإنه من خلال قلبه العاقل ، يُقارن بالكلمة الإلهيّ ( اللوغس ) وتاليًا يكون عاقلا ” .
الإنسان أيقونة الله، وهو مدعو أن يكون بالنعمة، ما المسيح عليه بالطبيعة. هذه الدعوة كانت له منذ البدء، لمَّا أعطي الإمكانيّة أي الصورة الإلهيّة للانطلاق نحو تحقيق المثال. وهذا يتطلّب ديناميكيّة نحو الله، وتآزر للنعمة مع الأعمال. التجسّد الإلهي قد أعاد لنا الإمكانيّة لتحقيق المثال. بعد أن أجّل الله مخطّطه الإلهيّ بسبب السقوط دون أن يلغيه. وذلك في شخص آدم الجديد المسيح.