الزواج لا يتمم معناه في التكاثر وحسب. إلا أن الخصب هو بُعد جوهري في كل حب حقيقي. على الصعيد البيولوجي، يضحي التكاثر والإنجاب قيمة روحية عندما لا يتم فهمهما كواجب إجتماعي فقط (“يجب أن يكون لنا أولاد وإلا لا ترضى عني حماتي!” ، “لا أريد أن يشككوا برجولتي”) أو كواجب غرائزي (“أنا بحاجة لأن أكون أمًا”، “أنا بحاجة لابن يحمل اسمي”). يجب أن تتسامى غاية الإنجاب لكي تجيب على جوهر الحب العميق. فالحب بطبيعته العميقة هو واقع يفيض ولا ينغلق على ذاته.
الخصب الأول الذي يختبره الشريكان هو خصب الحب في حياة كل منهما. هو خصب النمو والانفتاح الذي يختبره كل من الشريكين أو الزوجين لمجرد عيشه وحبه وعلاقته مع الآخر، فترى لسان حال من عرفه سابقًا ومن يعرف الآن يقول: “لقد أصبح شخصًا آخر”، “لقد أصبحت أكثر انفتاحًا ولطفًا”، “لقد صار رجلاً حساساً”، أو باللبناني المشبرح: “عِقِل”، “حط عقل براسو”، إلخ. وفي العائلات التي تريد أن تعيش عمق سر الزواج، الخصب الحق هو النمو في القداسة والاتحاد بالمسيح. فكل زواج هو سبيل لإعداد النفس-العروس للاتحاد بالعريس السماوي.
الخصب الثاني هو الانفتاح على الحياة. الخصب الأول يولّد خيرًا ويجب أن ينعكس في الانفتاح على الحياة، على الإنجاب إذا كان ذلك ممكنًا. يزداد في أيامنا عدد الثنائيات الأنانية، حيث يقرر الاثنان أن “يعيشا شبابهما” وينغلقان على الحياة لسنين طويلة، ومع تقدمهما في العمر يقرران الإنجاب وهم أقرب أن يكونا من الأجداد منه إلى الأب والأم. نعم، الأبوة والأمومة تحتاج إلى نمو ونضج وتضحية بالذات، ولكن في ذلك فرح كبير وثمر مبارك. كنت أتحدث يومًا مع صديقة أعتبرها قديسة وأقول لها عما يترتب على عائلة شابة مثلنا من تعب في تربية الأطفال، الأمر الذي يجعلنا نتخلى عن النزهات وأمور أخرى. فقالت لي شيئًا أثّر فيّ كثيرًا: “عرفت الكثير من العائلات. وأستطيع أن أقول أن هناك نوعين منهما. النوع الأول يريد أن يبقى شابًا فيرفض الإنجاب، وهذه العائلات سرعان ما تذبل وتعيش شيخوخة سريعة بالاهتمامات والهموم والعقلية. النوع الأخر، هو تلك العائلات التي انفتحت على الحياة، والتي، بعد فترة من التعب الذي لا يُنكر، بدأت تعيش شبابًا متجددًا، لا بل نوعًا من طفولة لمرافقتها للأطفال وللشباب في نموهم، فعاش الزوجان شبابهما مع شباب أولادهما”
الخصب الثالث هو ذلك الذي يدرك أن الحب لا يستطيع أن ينغلق على العائلة وحدها. فالحب لا يعرف حدودًا وهو بطبعه لا ينغلق على خاصته بل يفيض. وبالتالي هناك خصب، ليس جسديًا، بل هو خصب الحب نحو الخارج، نحو من هو بحاجة لدفء حب تستطيع عائلة دافئة أن تمنحه وتفيضه. أقولها بشكل مقتضب: قد تَحُول الطبيعةُ بينك وبين إنجاب الأولاد من رحمك، ولكن وحده نقص الحب يَحُول دون إنجاب “أولاد” رحمتك وفيض حبك. العقر الأخطر والأتعس هو عقر الحب.
لربما يلخص العلاقة بين الحب والخصب ما يقوله المرتدّ الكبير ديتريخ فون هيلدبراند، الذي أثر كثيرًا في تطور وتعمق المفهوم الكاثوليكي للزواج. يكتب هذا الرجل العظيم في كتابه “الزواج”:
“لا يجب أن ننسى أن كل حب طاهر يملك خصبًا روحيًا، وأن هذا بوجه خاص في الحب الزوجي يبقى مستقلاً عن الإنجاب البيولوجي. فهذا الخصب يتحقق في انطلاقة النفس التي هي كامنة في الحب، في يقظة النفس التي تشعر بزخم النمو الروحي والأخلاقي… كل زواج يتحقق فيه بشكل كامل حبٌ مماثل يحمل ثمارًا روحية وهو خصب حتى من دون أولاد”.