1. بفرح كبير وشوق ألبّي دعوة أخينا المحبوب، صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكيه وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، للمشاركة في افتتاح هذا المؤتمر الأنطاكي في رحاب جامعة البلمند الزاهرة. فأشكركم، من صميم القلب، أيّها الأخ الجليل، على الدعوة، وأهنّئكم على هذه المبادرة العظيمة بعقد المؤتمر الأنطاكي الذي من شأنه، كما حدّدتم إطاره، بناء الوحدة الأنطاكية بكلّ أبعادها ومستلزماتها في داخل كنيستكم الشقيقة.
إنّ التراث الأنطاكي الروحي واللاهوتي والليتورجي، وهو مشترك بين الكنائس التي تشكّل العائلة الأنطاكية، يدعونا إلى عمل مسكوني شامل، وإلى إغناء كنيسة المسيح الواحدة الجامعة، وإلى إستمراريّة الحضور المسيحي الفاعل في عالمنا الشرق أوسطي وفي أوطاننا العربية. ولا بدّ من تذكير المسيحيين بأنّهم يعيشون في هذه المنطقة منذ ألفَي سنة، وقد أرسَوا أسس ثقافاتها، وحقّقوا النهضة فيها على كلّ صعيد. واليوم نرى أنّنا أمام التحدّي الكبير الذي يدعونا للمساهمة في إعادة بناء الوحدة بين مكوّنات أوطاننا على أساس من التنوّع في الوحدة. يدعونا هذا التّحدّي للعمل الجدّي في سبيل السلام والعدالة بالحوار والتفاهم، بعيداً عن لغة الحرب والعنف والخطف والترهيب. وهذه مسؤوليتنا أوّلاً وبخاصّةٍ في لبنان في تعزيز العيش المشترك، وشدّ روابط الوحدة الوطنيّة التي يضمنها رئيس جديد للجمهوريّة قادر وجامع، نطالب بإلحاح المجلس النيابي بانتخابه اليوم قبل الغد، ونُدين بشدّة كلّ تأخير وتأجيل ومماطلة، ونحمّل المعرقلين المسؤوليّة أمام التاريخ. إنّ انتخاب مثل هذا الرئيس حاجة أوّليّة للأخوة السنّة والشيعة من أجل الحدّ من أخطار الحرب الدائرة على أرض العراق وسوريا.
2. قلتُ إنّي “بفرح كبير وشوق” ألبّي وأشارك وأهنِّئ، لأنّ فكرة عقد “مؤتمر أنطاكي” كانت تراودنا نحن أيضًا منذ ما بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، ثمّ عدنا إلى البحث فيها في سينودس الأساقفة الروماني الخاص بلبنان (1995)، كما نقرأ في الإرشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” (1997) للبابا القديس يوحنا بولس الثاني: “التوجيه الأول المقترح يقوم على اكتشاف التراث الأنطاكي من جديد والتعمّق فيه. إنه مشترك بين عددٍ من الكنائس البطريركية، الكاثوليكية والأرثوذكسية، في الشَّرق الأوسط. هذه العودة إلى الينابيع تقتضي تجديداً في التنشئة والتفكير اللاهوتيّين، وفي الحياة الروحية والعمل الراعوي، مع الأخذ بعين الاعتبار تقليد الكنيسة، ولاسيّما آباء الشرق والغرب الذين عبّروا عن بشارة الإنجيل في ثقافاتهم المتنوعة”.
ثمّ دعا الإرشاد الرسولي إلى بناء جسد المسيح بالتعاون الروحي والراعوي والاجتماعي بين هذه الكنائس في نطاق محيطنا العربي، وفي عالم الانتشار (راجع الأعداد 64-70).
3. وعندما عقدنا “المجمع البطريركي الماروني” ما بين سنة 2003 و2006، ورحنا نتعمّق في هويّة كنيستنا المارونيّة ودعوتها ورسالتها، باستجلاء عناصرها التي تحقّق من خلالها سرّ كنيسة المسيح الواحدة، الجامعة، المقدّسة الرسوليّة في بيئتها الأصلية الشَّرق أوسطية، وفي أماكن انتشارها. وتبيّن لنا كم أن هذه العناصر هي في جوهرها مشتركة بين الكنائس الأنطاكية، وقد اتخذت بفعل الزمن طابعها المارونيّ المميّز(راجع النص الثاني: هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها). فكانت لهذا المجمع التوصية الأولى التالية: “متابعة الاهتمام بإحياء التراث الأنطاكي الذي تشترك فيه سائر الكنائس الأنطاكية، في أبعاده اللاهوتية والروحية والليتورجية، وتقديمه في حلّة جديدة تكون بمتناول أبناء كنائسنا” (راجع التوصية الأولى من النص الثاني المذكور، مع آلية تطبيقها).
نأمل أن يُهيِّئ هذا “المؤتمر الأنطاكي” المساحة المناسبة لتحقيق هذا التراث الإنطاكيّ المشترك.
4. إنّنا في أنطاكيه نجد كلّنا أصالتنا ومرجعيّتنا. منها ننطلق بقوّة إيماننا بالمسيح وقيامته، إيماناً رسوليًّا صافياً، يقدّرنا مع أبناء كنائسنا على تخطّي واقع الموت برجاء القيامة. فحدث القيامة هو حدثنا اليومي بوجه كلّ ما نتعرّض له من قتل وخطف وتهجير، وبوجه كلّ ما نشهده من انحطاط في الإنسانية وقيمها. وإليها نعود للاستنارة واستعادة قوانا المسيحية القياميّة.
5. ومن مدرسة أنطاكية اللاهوتية نتعلّم سرّ التجسّد الإلهي، ونلتزم بهويّة التجسّد ورسالته. فالحضور المسيحي في هذا الشرق حضورتجسّدي، روحي وإنساني واجتماعي ووطني. تجسّد من أجل الإنسان الآخر، فيكون الحضور المسيحي بمثابة خميرة من الحقيقة والمحبة والأخوّة في العجنة المشرقيّة كلّها. فكما أنّ الإنسان هو طريق المسيح، الذي من أجله صار إنسانًا، هكذا الإنسان المشرقيّ هو طريق كنيسة المسيح الواحدة، طريق كنائسنا المدعوّة لتجسّد فيه وفي مجتمعه تراثها وثقافتها من خلال نشاطاتها الراعوية ومؤسساتها التربوية والاجتماعية. وهكذا نعمل معًا على بناء مجتمع إنساني أفضل.
6. من أنطاكيه أمّ الحضارات، المسمّاة أيضًا “أمّ الشعوب” ورثت كنائسنا الانفتاح والشموليّة في عالمنا العربي، فجعلتنا نتصدّى لكلّ تقوقع وانغلاق على الذات، ونثبت في إيماننا المسيحي الذي يدعونا في آن إلى العيش مع الآخر المختلف، والعيش فيما بيننا بروح
ٍ مسكوني أصيليسعى إلى الوحدة. هذه التي يريدها المسيح، وهي عطية منه، وتأتي ثمرةً للصلاة الدائمة والعودة إلى الله بروح التوبة، وعيش الحقيقة في المحبة. أنطاكيه هذه تدعونا لنكون قلبًا واحدًا ويدًا واحدة وصوتًا واحدًا في شهادتنا المسيحية للقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، وفي الدفاع عن كرامة الشخص البشري والحريّات العامّة والعدالة والسلام (راجع الارشاد الرسولي: الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، 11-18).
وبفضل هذا الانفتاح الأنطاكي، نواصل اليوم أكثر من أيّ يومٍ مضى، حوار الحقيقة والحياة مع إخواننا المسلمين، ونحن نعيشه معهم، بوجوهه الحلوة والمرّة منذ 1400 سنة. رسالتنا أن نعزّز ثقافة العيش معًا على أساسٍ من المعرفة المتبادلة، والاحترام، والاغتناء من قيمنا وتقاليدنا وتراثاتنا الخاصّة، والتشارك في حياة أوطاننا بحكم حقوق المواطنة، وأن نشجب معًا الظاهرات الأصولية التي تشوّه الدين، وتلك العلمانية الملحدة التي تعادي الله وتعليمه ووصاياه، وأن نبني يوميًّا ثقافة الاعتدال والتعاون وحماية حقوق الإنسان، وفي طليعتها حرية العبادة والمعتقد والرأي والتعبير(راجع الإرشاد الرسولي: الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة، 25-30).
7. إنّنا فيما نرجو لهذا المؤتمر الأنطاكي النجاح في تحقيق أهدافه، نقف معًا اليوم وقفة مثلّثة: نعود إلى الماضي، إلى الجذور، لإعادة بلورة هوّيتنا الإنطاكية ورسالتنا المشتركتَين؛ نجدّد الحاضر بتسليط نور جوهر الماضي على الواقع الحالي؛ ونتطلّع إلى المستقبل بروح “كنيسة لعالم اليوم”، عالمنا هنا في الشرق الأوسط، وعالمنا في دنيا الانتشار. وإنّنا نضع تحت أنوار الروح القدس، وحماية أمّنا مريم العذراء أمّ الإله، أعمال هذا المؤتمر الأنطاكي، لمجد الله الواحد والثالوث، ولخير كنائسنا وأوطاننا.