عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي عيد قلب يسوع – حريصا، في 27 حزيران 2014

“تعلّموا منّي، إنّي وديع ومتواضع القلب”

Share this Entry

1. في عيد قلب يسوع الأقدس، ننفتح لمحبّته لكي ننعمَ بالسعادة والراحة. فهو يدعونا: “تعالوا إليّ أيّها التعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحُكم”(متى 11: 28). وفي هذا العيد ندخل مدرسة الحبّ الإلهي فنتعلّم كيف نحبّ إخوتنا، وتمتلئ قلوبُنا وداعةً وتواضعاً، بحسب وعد الربّ: “تعالوا إليّ، وتعلّموا مني: إنّي وديعٌ ومتواضعُ القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم”(متى 11: 29).

2. يسعدُنا أن نحتفل معاً بعيد قلب يسوع الأقدس، في بازيليك سيدة لبنان، بين يدَي أمّنا مريم العذراء، ابنة مدرسة ابنها الإلهي، التي ندعوها أمَّ المحبة، وبتولاً وديعة، وتسمّي هي نفسَها “أمة الربّ” الذي نظر إلى “تواضعها” “فصنع فيها العظائم” (راجع لو1: 38؛ 48 -49).

نحتفل بالعيد اليوم بدعوة كريمة من “عائلة قلب يسوع في لبنان“، الحاضرة بكلّ فروعها من مختلف الرعايا التي تواجدوا فيها. فأحيّي هذه “العائلة”، وبخاصة رئيستها السيدة سلوى اسطفان، ومرشدها المونسنيور روكز برّاك. وأهنّئها بعيد شفيعها، بل أهنّئكم جميعاً أيّها الحاضرون؛ فعيد قلب يسوع الذي وُلدنا منه مسيحيّين وأبناءً وبناتٍ لله، وإخوة وأخوات بعضنا لبعض، هو عيدنا بل عيد كلِّ واحدٍ منّا.

3. إنّنا نصلِّي ملتمسين من القلب الإلهي، بشفاعة القدّيسة مرغريت ماري، أن يسكب الحبَّ في قلوبنا وقلوب جميع الناس، فننعم بالسعادة والفرح، وننشرهما في محيط كلّ واحد منّا. وفيما نقدّم ذبيحة الحبِّ القربانية، فعل عبادة وحبّ لله الواحد والثالوث، نقدّم معها أفعال المحبة التي نقوم بها، في العائلة والكنيسة والمجتمع. ومع “عائلة قلب يسوع”، نرفع صلاة الشكر للقلب الإلهي على ما مكّنها من أفعالِ خير ومبادراتِ محبة نحو العائلات الفقيرة، ونحو الأخوة والأخوات الذين يعانون من الفاقة والعوز. ونسأله أن يكافئ أعضاءها وجميعَ المحسنين، بفيضٍ من نعمه السماوية.

4. إلى قلبك الأقدس، أيها الربّ يسوع، نلتجئ بفعل عبادةٍ وتقوى، راجين أن تحقِّق فينا مواعيدك التي كشفتَها للقديسة مرغريت ماري ألاكوك:

– أن تمنحنا النعم اللازمة لخلاص نفوسنا.

– أن تُلقي السلام في بيوتنا وعائلاتنا، وتعزّينا في أحزاننا، وتبقى ملجأنا الدائم حتى مماتنا.

– أن يحصل الخطأةُ على رحمتك، والنفوسُ الفاترة على حرارة الإيمان صمود الإيمان وشعلة المحبة.

– أن ترفع النفوس الحارّة في الحبّ والإيمان إلى قمّة الكمال.

– أن تعضد بنعمتك الكهنة كي يزرعوا محبتك في القلوب الصلبة، وينشروا العبادة لقلبك الأقدس، ويُحيوا المناولة الأسرارية التعويضية في كلّ أول جمعة من الشهر، فتحيط الجميع بوافر رحمتك وخلاصك.

5. هو الربّ نفسُه، أراد نشر عبادة قلبه الأقدس، فكشف إرادته هذه للراهبة القديسة مرغريت ماري ألاكوك، من راهبات الزيارة في سنة 1674. فأعرب عن رغبته في نشر كنوز نعمته وحبّه للبشر، وطلب أن يُكرَّم قلبُه الأقدس كتعويض عن حبّه الفادي، من خلال تناول جسده ودمه في القداس بتواتر، ولا سيّما في أول يوم جمعة من قلبه وقال: “هذا هو القلب الذي أحبّ البشر، والذي يُقابَل بالإهانات”. ثمّ طلب منها أن يكون عيد قلبه الأقدس، للتكفير عن الإهانات، اليوم الجمعة أي الثامن بعد عيد خميس القربان. وضع الربّ يسوع على دربها الأب Claude de La Colombière، فتعاونت معه على نشر عبادة قلب يسوع.

ثبّت البابا كلمنصوس الثاني عشر في سنة  1765 عيد قلب يسوع أوّلاً في بولونيا، بطلب من أساقفتها. وبعد مئة سنة، جعل البابا الطوباوي بيوس التاسع هذا العيد في 1865 على نطاق العالم. وفي رسالة رسولية بتاريخ 28 حزيران 1885 أعلن البابا لاون الثالث عشر قلب يسوع المطعون بالحربة ملجأً وملاذاً لراحة البشر وأعلنه علامة خلاص لزماننا، مثلما اعتلن الصليب بظهوره للملك قسطنطين علامة لانتصاره.

6. عيد قلب يسوع متأصّلةٌ جذوره في الإنجيل. فلمّا طعن الجندي صدر يسوع بحربة، جرى من قلبه ماءُ المعمودية الذي يغسل خطايانا، ودمُه السرّي الذي يروينا (راجع يو19: 34). هكذا فسّره القديس يوحنا فم الذهب، وأضاف: “هذا هو جنب آدم الجديد الذي استُلّت منه، وهو نائم على الصليب، حواءُ الجديدة أي الكنيسة عروسُ المسيح. ولذلك يحقّ القول في الكنيسة وفي أبنائها “أنّنا لحمٌ من لحمه وعظمٌ من عظامه”(راجع تك 2: 23). إنّ قلب يسوع إلهِنا مفتوح. فلنَدْنُ منه، ولنقبل النّعم الزاخرة التي تتدفّق منه بغزارة.

من حينها انطلقت روحيًّا وليتورجيًّا عبادةُ قلب يسوع. ثمّ تطوّرت في إطار الحياة التقويّة الرهبانية في القرنَين الحادي عشر والثاني عشر فكتب قديسون عظام رهبان:

– “قلب يسوع أشبه بخزانة تحوي جميع كنوز النعمة وينبوع الحياة الدائمة”(بطرس دميانوس + 1071).

– “قلب يسوع هو مسكن النفوس، وقدس الأقداس، وتابوت العهد. فلنصنع مظلّة في هذا القلب ونسكن فيها إلى الأبد” (برنردوس + 1159).

– “قلب يسوع أشبه بفُلكِ نوح، فهو وسيلة خلاص الجنس البشري. وطعنة الجندي بالحربة أشبه بباب الفلك الذي دخل منه جميع الناجين من الطوفان”(توما الأكويني + 1274).

7. هذا هو ينبوعُ الحياة المسيحية وفلسفتُها وثقافتُها، ومدرسةُ الحب الحقيقي. هي محبة المسيح الذي تفانى في حبّ جميع الناس، فردّ الإساءةَ بالغفران، وطعنةَ الحربة بينبوع الحياة. العالم بحاجة إلى حضارة المحبة، والمسيحيون هم روّادُها ورسلها. ولذلك أقول لمسيحيي هذا الشرق العربي الجريح بالحروب والعنف والإرهاب والتهجير،
وهم يسقطون ضحايا بريئة مع غيرهم: أنظروا إلى هذا القلب الإلهي الذي يقول لكم: “تعالَوا إليَّ، أيها التعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم”(متى 11: 28). إنّكم تجدون فيه العزاء والقوّة. هو وحده يعرف كيف يخاطب قلوبكم.

8. ونحن المجتمعين هنا اليوم، في بازيليك سيدة لبنان – حريصا، للاحتفال بعيد قلب يسوع الأقدس. نذكر كل هذه الضحايا، وضحايا التفجيرات الأخيرة في لبنان. نصلّي من أجل عودة الخطأة عن إساءتهم لله، وعودةِ الأشرار الذين يُلحقون الأضرار الجسيمة بالسكّان الآمنين وزرع الرعب.

ونصلّي من أجل المسؤولين السياسيّين في لبنان، ولاسيما نوابِ الأمّة ومَن وراءهم، لكي يكفّوا عن الإمعان في طعن الدستور والميثاق الوطني، بحرمان الجمهوريّة اللبنانية من رئيسٍ يضفي الشرعيّة على جميع مؤسسات الدولة، وفي تعطيل السير المنتظم للحكومة والبرلمان. فلا أحد يستطيع أن يحلّ محلّ رئيس البلاد، كما لا يمكن لأي عضو في الجسد أن يحلّ محلّ الرأس. إنّ البرلمان ملزم بالانعقاد الدائم اليومي، بحكم الموادّ 73 و 74 و 75 من الدستور، لكي ينتخب رئيسًا للبلاد، والحكومة تسدّ الفراغ المؤقّت السريع، بحكم المادة 62 طيلة هذا الانعقاد. فلا يحقّ للمجلس النيابي أن يلتئم أسبوعيًّا أو كل أسبوعَين ويتمادى في عدم القيام بواجبه، ولا الحكومة يحقّ لها أن تُجزّئ صلاحيات رئيس البلاد. وطالما الإمعان في المخالفة مستمرٌّ، لغاية في النفس، فالمجلس النيابي والحكومة مسؤولان عن تعطيل شؤون المواطنين وحاجاتهم، وعن تردّي أوضاع لبنان الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأمنيّة.

9. وبما أنّ قلبَ أمّنا وسيدتنا مريم العذراء يدقّ بتناغمٍ تامّ مع نبضات قلب ابنها الإلهي، فإنّا لقلبَيهما الأقدسين نُجدّد اليوم تكريس لبنان وبلدان الشرق الأوسط، راجين أن ينسكب من قلبَيهما الحبُّ الإنساني في قلوب جميع البشر، ولاسيما في قلوب أمراء الحروب ومموّليها والمحرّضين عليها، ومستغلّيها، وأن تمسّ نارُه الضمائر الميتة التي باتت عديمة الشعور بمآسي ضحايا الحروب والعنف والتهجير في أرضنا، ولاسيما في سوريا والعراق.

ويا رب، فليرتفع المجد والتسبيح لقلبك الأقدس من كلّ قلب محبّ ومتفانٍ ومن قلوبنا جميعًا، لك وللآب والروح القدس، إلى الأبد، آمين.

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير