من الضروري أن يضحي الحب بين الزوجين صداقة، حيث يشعر الزوجان أنهما رفيقان على درب الحياة، في مسيرتهما نحو ما يتجاوزهما. يعلمنا البابا بندكتس السادس عشر في رسالته العامة الأولى "الله محبة" أن الحب البشري هو في الوقت عينه "إيروس" (eros) و "أغابي" (agape) أي هو حب رغبة وحب بذل ذات. ولا يمكن الفصل بين الاثنين في العلاقة الزوجية. لا يمكن أن يكون الحب الزوجي مجرد حب رغبة ولذة، فالآخر يضحي سلعة. كما لا يمكن أن يكون مجرد علاقة حب بذل ذات وتضحية من أجل الآخر، فالزواج ليس مؤسسة خيرية هو جماعة لقاء ومشاركة في الحب وتحتاج إلى مبادلة (لا تكون مبادلة تجارية، بل حوار حب). أود أن أضيف إلى هذا الثنائي بُعد ثالث هو بُعد الـ "فيليا" (philía) أي الصداقة. هي اسم ثالث من أسماء الحب يجعل الزواج خبرة سعادة تتخطى البعد التملكي الملازم لخبرة الحب بين الرجل والمرأة وتدخل في إطار دعم الآخر ومحبته وإرادة نموه بتجرد وحب صافٍ، تمامًا كما يتم بين الأصدقاء.
أذكر مرة أن فتاةً قد فاجئتني (وأحزنتني لأجلها) عندما قالت لي متحدثة عن مفهومها للعلاقة العاطفية: "مع ’صاحبي‘ لا أقول الأمور الهامة والحميمية، فلهذه الأمور هنالك الأصدقاء". تساءلت بيني وبين نفسي: "ما هو المستقبل العاطفي الذي ترغب به هذه الفتاة؟ وماذا تتوقع أن تبني مع شريك حياتها؟ عم سيتكلمون إذا تزوجوا؟ عن الطقس؟ أو عن تدبير مصاريف العائلة التي تزيد مع الزواج؟". لهو أمر محزن حقًا إذا لم يتوصل الزوجان إلى علاقة صداقة، ينفتحان فيها على تطلعاتهما وآمالهما وخياراتهما. إذ تضحي العلاقة الزوجية والحوار الزوجي مجرد تنظيم للثكنة العسكرية العائلية. ويضحي كل منهما وزيرًا مسؤولا عن جزء معيّن من مسؤوليات القبيلة... أشدد على هذا البعد الأول، بعد "الصداقة الداخلية".
إلى جانب الصداقة الداخلية بين الزوجين، يجب على الشريكين أن يُنميا "الصداقة الخارجية". الغيرة مرض يقتل الكثير من العلاقات التي كان يمكن أن تكون سليمة بحد ذاتها. ترى الكثير من العائلات تعيش بحالة بؤس داخلية لأنها أفرغت نفسها من كل معالم الصداقة والتواصل مع الخارج. تضحي مثل نار متقدة تخمد وتنطفئ رويدًا رويدًا لأن الشريكين باتا أحدهما للآخر كل الكون. لا حوار، لا صداقة، لا مشاركة مع أحد آخر. سأكون قاسيًا في هذه الصدد نظرًا لكثرة الألم الذي أراه في عيون كثيرين: هذا ليس حب، هذا فرض عبادة الأوثان الواحد على الآخر. إذ يضحي كل من الشريكين وثن الآخر المُطلق... ولا عجب إذا وصل – اسمحوا لي باللعب على الكلمة – الوثن المُطَلّق، أي إذا لم يعد أحد الشريكين يتحمل ويكسر الرباط. هناك بالواقع من يتحمل هذه العزلة والوحشة غير الإنسانية حبًا بالعائلة واحترامًا للتقاليد، وهناك من لا يحتمل وينفجر في ما بعد.
في إطار لقاءاتي مع التلاميذ في مختلف الجامعات، حتى عندما لا يساررونني بوقائع حياتهم الشخصية، أستطيع أن أحدس غالبًا من يعيش علاقة سلمية ومنفتحة، ومن يعيش "تحت المكيال". غالبًا ضحايا هذه السجن الوهمي هنّ من النساء. ولكن لا يجب أن نقلل من قيمة آلام الرجال الذين يعانون من وقر امرأة غيورة بشكل مرضي. بالطبع، لا يعيش هؤلاء الرجال "المساجين" الوضع مثل النساء اللواتي يشعرن بالخوف في كل تصرفاتهن وكأنهن يخطئن بكل خطوة يقمن بها، ولكنك ترى هؤلاء الرجال حزنين، مقيدين، يحتاجون لإذن ولمشاورة لكي يأخذوا أي قرار ولو بسيط وتافه.
الحرية هي اسم من أسماء الحب، هو تحرير الآخر من قيود الخوف، وهذه الغيرة التي تقتل جميع الصداقات والعلاقات الأخرى هي ليست حبًا أو "غيرة باسم الحب" هي تملك لآخر وحصره في عبودية مطلقة لـ أناي. وباسم ماذا؟ باسم الأمانة؟ هذا يعني أنك لا تثق بالآخر، وأي حب يستطيع أن ينمي بلا ثقة؟ إذا كنت لا تثق، لكان من الأفضل ألا تربط نفسك بشخص لا تثق بها من الأول. ولكن، إذا كانت مشكلة عدم الثقة نابعة من قلة ثقتك بنفسك، لا من عدم أمانة الآخر، فلا تنكل بالآخر ولا تنكد عيشته بسبب أمراضك. عالج نفسك! وعليه، خلاصة القول، يجب على الثنائي أن يعرف أن يعيش علاقات وصداقات سليمة شخصية وثنائية على حد سواء، تسمح للثنائي أن يتخطى تجربة ما يسميه أريك فروم "الأنانية المزدوجة" وهي وجه ماكر من الأنانية، لأنه يبدو وكأنه خرجت من حدود الأنا لتقيم علاقة مع آخر ولكن بالحقيقة، جعلت من الآخر وصلة وحاشية من حواشي أناك، والعكس صحيح.
الحب هو انفتاح وهو نعمة تسمح للإنسان بالنمو والازدهار، والصداقة هي وجه من أهم وجوه هذا النمو. علمًا بأن الصداقة الداخلية تبني علاقة متينة وثقة وطيدة، تساعد الثنائي على تجاوز عدم الثقة والغيرة المرضية وعلى عيش الثنائي في إطار إشعاع حب فردي وثنائي ينفتح على خصب الحب واللقاء.
ولنذكر في النهاية ما يقوله نيتشه: "ليس نقص الحب، بل نقص الصداقة ما يجعل الزواج تعيسًا".
سنتحدث عن الزواج والخصب في النقطة التالية.