ما هي دعوتي – انطلق من أرضك

ما هي دعوتي (8)

Share this Entry

بعد الوقفة الأولى حول “الانطلاق نحو الذات” فلنعد إلى النداء الذي يوجهه الله إلى أبرام متأملين بالمعنى الشائع الأول، أي معنى الخروج والدعوة إلى الخروج والانطلاق التي يوجهها له الله. ولعل هذا المشهد الكتابي يشكل موضوعًا لائقًا لفكاهي ينطلق من عبثية النداء الذي يوجهه الله، فهل يُعقل أن نبدأ حوارًا مع شخص بأمر من هذا النوع دون أي شرح وافي؟ وغرابته: فهل يستطيع الله أن يتوجه إلى عجوز بدعوة إلى مغامرة من هذا النوع دون؟

بالطبع، يمكننا أن نفكر بأن هناك علاقة سابقة وعميقة بين الله وإبراهيم، إلا أن النص الكتاب لا يهدينا هذا الترف، بل ينطلق فورًا من النداء الجذري: “انطلق”. في هذا النداء ترك مُطلق يتردد ثلاث مرات ويسلط الضوء على ثمن هذا الانطلاق. فهو ترك يلمس “الأرض، العشيرة والبيت الأبوي، أي كل ما يلمس الإطار المعيشي الأساسي لحياة إبراهيم، وليس فقط الإطار المعيشي العائلي، بل كل ما يستطيع أن يُشكل الإطار الجماعي والاجتماعي: العشيرة، العقلية، الثقافة، إلخ”[1].

كيف يجيب أبرام على هذه الدعوة؟ هل فكّر مليًا قبل أن يقبل اقتراح الله؟ هل شعر بتردد؟ هل شعر بتذمر أو حتى بالغيظ بسبب هذه الدعوة الغريبة والمتطلبة من قبل الله؟ يحاول ماركو تيبالدي أن يتخيل ردة فعله الأولى فيكتب على لسان إبراهيم:

“هل هذه مزحة؟ إذا كانت كذلك فهي مزحة من النوع السيء. لا يجوز التلاعب بمشاعر العجائز! هل أضحي أنا بركة لقبائل الأرض؟ لست بركة ولا حتى لعائلتي، كيف لي أن أضحي بركة للآخرين؟ ومن ثمَّ، ما هو هذا الصوت الذي أسمعه؟ أنا، مثل عائلتي، لدينا آلهتنا. أليس هذا مجرد وهم وهلوسة؟ أليس هذا ثمرة الرغبة بأن يكون لدي طفل والتي تجعلني أظن أن هناك من يخاطبني؟ هذا ولم يقوم هذا الإله الجديد بالحديث إلي أنا بالتحديد؟ بكل تأكيد لست الشخص المناسب لهذه الرسالة لا أنا ولا زوجتي العجوز ساراي… فها نحن قد ثبتنا مكان إقامتنا في حاران، فلم الانطلاق من جديد، وبالأخص إلى مكان لا نعرف أين هو! فهذا أمر خطير. من يرغمني على القيام به؟”[2].

كل هذه الاعتبارات مفيدة. فمن الجيد أن نستعمل مخيلتنا لكي نتصور الأحداث الكتابية فندرك بهذا الشكل هذه الخبرة المتطلبة. القديس اغناطيوس دي لويولا ينصح باستعمال المخيلة في الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وليس فقط إعمال الفكر. فنحن معتادون على مقاربة الكتاب المقدس بطريقة سطحية كقصة أو مجموعة قصص نعرف نهايتها مسبقًا. ومن المستحسن أن نعبر المشاعر والحالات التي يسردها الكتاب المقدس بكل حواسنا وليس فقط بفكرنا. إعمال الحواس جزء هام من خبرة التواصل مع الكتاب المقدس. يجب أن نفهم أن دعوة إبراهيم هي أمر مكلف، هي استثمار حياة بكاملها، حياة ربما بلغت بعض الاستقرار. يكفينا أن نفكر بمن يتوجب عليه أن يترك أرضه بسبب الحروب أو النكبات الطبيعية أو الاضطهاد. فقساوة الهجرة لا تميز بين عجوز وشاب ونعرف قساوتها حتى على من هم بربيع العمر، فكم بالحري على عجوز. الهجرة هي إلى حد ما تذوق مسبق للموت.

ولكن… بعد كل اعتباراتنا… ماذا يقول الكتاب المقدس عن ردة فعل إبراهيم وعن تفكيره الذاتي بهذا الشأن؟ – لا شيء، لا شيء البتة! لا بل يسود صمت يكاد يكون خانقًا. يقول لنا فقط أن أبرام انطلق. ما يدعونا الكتاب المقدس إليه هو التأمل بمعنى هذه الدعوة. لذا سنتأمل في الحلقتين المقبلتين بمعنيين متكاملين لدعوة إبراهيم: الوجود البشري كدعوة إلى الخروج والوجود البشري كدعوة إلى المستقبل.

 


[1] C.M. Martini, Abramo nostro padre nella fede, 61.

[2] M. Tebaldi, Il codice Abramo. Personaggi in cerca di attore: Abramo e Sara, Pardes, Bologna 2009, 52.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير