هل تعني كلمة " خَلَق " ، الصُنع ؟!

سؤال وجواب عالطاير

Share this Entry

من المواضيع الصعبة في اللاهوت المسيحيّ التي يقفُ المؤمن أمامها متعجّبا : الخلق . فموضوع ” لاهوت الخلق ” ، موضوعٌ بالإضافة إلى أنه جميلٌ ومشوّق ، إلا أنه ، من جهة أخرى ، موضوع يطرح تساؤلات عديدة وشكوك .

لا نقدر أن ندخل الآن في كلّ تفاصيل لاهوت الخلق في الكتاب المقدّس وفي اللاهوت المسيحيّ ، فهذه الكلمة وحدها ” الخلق ” ، تحتاجُ إلى سنة لدراستها في كليّات اللاهوت ، وربّـــما أكثر . 

سؤال الأخ العزيز مهمّ جدّا ، وجيّد أن نعطي إجابة مبسّطة ” ع َ الطاير ” . من المهمّ أن نشطب من ذهننا ، بكلّ ما لنا من قوّة ، بعض التصوّرات الخدّاعة الرهيبة والمتبلورة في بعض الكلمات التي نستعملها بدون تروّ والتي يجب علينا أن ننتقدها بقوّة ، وهي ” الإنبعاث والصنع والبداية ” . يعطينا الأب فرنسوا فاريون اليسوعيّ ، في موضوع ” الخلق ” ثلاثة كلمات بديلة للكلمات أعلاه ؛ لكنّنا هنا سنتتطرّق لكلمة ” الصنع ” فقط . يضعُ محلّ الإنبعاث : الإختلاف أو الغيريّة . ويضعُ محلّ الصنع : التكوّن . ويضعُ محلّ البداية : الإرتباط الجذريّ (ارتباط الإنسان بالله ) .

لا تعني كلمة ” خَلَق ” ، أي أنّ الله ” صَنَعَ ” . فالله لا يصنع كما يصنع النجّار طاولة . ولا كما يصنع المهندس المعماريّ بيتا . كلمة ” خلق ” تـــُعطى للرسّام وللشاعر ، مع بعض التحفّظات إن وضعنا الكلمتين عن الله . فالرسّام يـــُبدع من فكره ، ومن إحساسه ، ومن مخيّلته . وأيضا ، الشاعر ، يُلقي شعره الذي أخرجه من مخيّلته وفكره وكيانه ، بطريقة ٍ مشوّقة تشدّ الكيان .

ليس الخلق صــُنعــًا ، ولا يصنع الله أيّ شيء ، لأن الصنع يؤدّي إلى غرض جاهز . يقول الأب فرنسوا فاريون : ” لا شك أنّ الله قديرٌ ، لكن محبّته هي القديرة . ليس المقصود أيّة قدرة كانت ، إذ أن الله لا يقدر على شيء إلا ما تقدر عليه المحبّة . لا يجوز أن نقول (وهنا الصدمة الكبيرة ) : الله على كلّ شيء قدير ، فهذا خطأ جسيم . لا يقدر الله على التدمير ، لأنّ المحبّة لا تقدر على التدمير . ولذلك ، نؤمن بالحياة الأبديّة ، إذ أنّ الذي يخلقني لن يدمرني . والله لا يقدر أن يصنع ، لأن المحبّة لا تصنع ، بل تولّد ، وهذا يختلف كل الإختلاف .

إنّ الله لا يصنع أصغر عنصر من عناصر العالم ، ولا أدق ذرّة من الذرّات . لا تـــــُصنع الحريّات ، لأن من خواص الحريّة أن لا تكون مصنوعة وأن لا يمكن صنعها ، فهي ليست غرضا من الأغراض . فليس الحريّة حرية إلا إن خلقتْ نفسها . بقدر ما يتصوّر الملحدون إلها صانعــــًا ، يحقّ لهم أن يحتجّوا باسم كرامة الإنسان . فلو كنـــــّا من صُنع خزّاف أزليّ ، لكان ذلك مخالفا لكرامتنا . فنحنُ نشطب تلك الفكرة غير المعقولة والخطرة ، فكرة عالم صنعه الله . لسنا من صنع الله ” كما يصنع الحرفيّ مقطع ورق ” بحسب تعبير جان بول سارتر .

فكّر في موسيقار أو في رسّام تحبّه . كرانبرانت وبيتهوفن وموزارت وشوبان وغيرهم . ليس الإبداع الفنيّ صنعــــًا ، فهناك إبتكارٌ مجانيّ تماما . هل تساءلت كيف أمكن نشأة الجملة الموسيقيّة الفلانيّة عند موزارت في دماغ بشريّ ؟ إنه لأمر رائع يأخذ بمجامع قلوبنا . ليس ذلك صنعا ، بل هو إبتكار يدلّ على العبقريّة . إن الله يخلق بدافع عدواه الموقِظة . هناك كثيرون نراهم وكأن لا وجود لهم في الحياة ، فبمجرّد أنهم لا يلقوا الإهتمام والحبّ والتقدير من الآخرين ، يصبحون عدمــــًا ! . لكن ، لو إقتربنا منهم قليلا ، وأصبحنا لهم أصدقاءً ، وأعطينا لهم الإهتمام والحبّ ؛ فسيكون هذا اللقاء فاتحة َ خلق ٍ جديد له . إذن ، الفعل الخالق ليس صنعا ، بل هو حضورٌ ووجود أمام الآخر . الفعل الخالق الذي يقوم به الله هو وجود ومحبّة . الله لا يعمل شيئا  (لا يعمل كذا وكذا وكذا ) ، الخلق ليس هو القيام بأيّ عمل ٍ ، وليس هو من الماضي السحيق بدأ وإنتهى ، بل هو دائم ومستقبليّ . ليس في الله وجود وعمل ، كما لو كانا أمرين . عمله يطابق كيانه . الله يخلق بصفته موجودًا كالأمّ ! وجود الأمّ معد ٍ لأنه محبّة ،  المحبّة هي إبداع وجود ؛ فكيف لو كان ” الله ” . قال احد الشعراء ” الله يخلق بالإنسحاب ، فكما تخلق البحار القارّات بالإنسحاب عنها ، هكذا يخلق الله ” . وآباء الكنيسة أيضا تكلّموا ، في موضوع الخلق ، عن ” انسحاب الله ” . هناك لطافة ورقّة في الخلق . الله يخلق بالإنشطار والإنسحاب والفصل .

يقول كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة (301) : ” يخلق الله ولا يترم خليقته على ذاتها ، إنه لا يكتفي بمنحها الكينونة والوجود ، فيصونها في الكينونة كل حين ، ويهبها أن تعمل ، ويقودها إلى نهايتها . والإقرار بهذه التبعيّة الكاملة بالنسبة إلى الخالق هو ينبوعُ حكمة ٍ وحريّة ، وفرح وثقة ” .

 

 

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير