الفاتيكان، الثلاثاء 21 أكتوبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي الخطاب الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر لدى استقباله صباح الخميس 16 أكتوبر 2008 المشاركين بالمؤتمر العالمي الذي تنظمه جامعة اللاتران الحبرية بمناسبة الذكرى العاشرة صدور الرسالة العامة “الإيمان والعقل” للبابا يوحنا بولس الثاني
* * *
السادة الكرادلة،
أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،
سيداتي وسادتي الكرام!
يسعدني أن ألتقي بكم بمناسبة المؤتمر الذي يعقد بمناسبة الذكرى العاشرة للرسالة العامة “الإيمان والعقل” (Fides et ratio). أشكر بشكل خاص المونسيونيور رينو فيزيكيلا لأجل الكلمات الودية التي وجهها إلي مقدمًا لقاء اليوم. تسرني المشاركة الفعالة للجامعة اللاتران، وللأكاديمية الحبرية للعلوم، والمؤتمر العالمي للمؤسسات الفلسفية الجامعية الكاثوليكية، في أيام الدراسة التي يعيشها مؤتمركم. فهذا التعاون هو محبذ دومًا، خصوصًا عندما نكون مدعوين إلى تقديم حجة عن إيماننا أمام تحديات متزايدة يواجهها المؤمنون في العالم المعاصر.
على مسافة 10 سنوات، تسمح لنا نظرة نبيهة إلى الرسالة العامة “الإيمان والعقل” من حدس آنيتها المستمرة: يتجلى في هذه الرسالة العامة العمق الواسع النظر الذي كان يتحلى به سلفي الذي لا ينتسى. فالرسالة العامة تتميز بانفتاحها الكبير نحو العقل، وخصوصًا في زمن يُنَظّر فيه ضعف العقل. يسلط يوحنا بولس الثاني الضوء على أهمية ربط الإيمان والعقل في علاقتهما المتبادلة، مع احترام نطاق استقلالية كل منهما.
مع هذا التعليم، تقوم الكنيسة كمفسرة لضرورة طارئة في الإطار الثقافي المعاصر. لقد أراد الدفاع عن قوة العقل وعن قدرته على الوصول إلى الحقيقة، مقدمًا مرة أخرى الإيمان كطريقة مميزة للمعرفة، تظهر بفضلها أمامنا حقيقة الوحي (راجع “الإيمان والعقل”، 13). نقرأ في الرسالة العامة أنه يجب أن نثق بقوة العقل البشري وألا نكتفي بأهداف وضيعة: “يحرض الإيمان العقلَ البشري على الخروج من أي انطواء وأن يجازف راضيًا من أجل كل ما هو جميل، وصالح وحقيقي. بهذا الشكل يظهر الإيمان كمدافع مقتنع ومقنع عن العقل” (عدد 56).
يكشف مرور الزمان، بالواقع، عن الأهداف التي توصل إليه العقل وقد حركه التوق إلى الحقيقة. من يستطيع أن ينكر إسهام الأنظمة الفلسفية الكبرى التي أدت إلى نمو الوعي الذاتي لدى الإنسان وإلى تطور مختلف الثقافات؟ وهذه الأخيرة، تضحي خصبة عندما تنفتح على الحقيقة، وتسمح لمن يشترك فيها بأن يحقق أهدافًا تجعل العيش الاجتماعي أكثر إنسانية. يعطي البحث عن الحقيقة ثماره خصوصًا عندما يرتكز على حب الحقيقة. فقد كتب أغسطينوس: “ما يملكه العقل، يتوصل إليه عبر المعرفة، ولكن المعرفةُ الكاملة لخير ما مستحيلة إذا لم يُحبَّ بالكمال” (De diversis quaestionibus 35,2).
مع ذلك، لا يمكننا أن نتجاهل أن قد تم الانتقال من فكر نظري بالغالب إلى فكر اختباري بشكل عام. فقد انتقل البحث إلى مراقبة الطبيعة بغية اكتشاف أسرارها. وتحولت الرغبة في اكتشاف الطبيعة إلى إرادة استنساخها. وهذا التحول لم يخل من الآلام: فتطور المفاهيم أثر على العلاقة بين الإيمان والعقل وأدى إلى استقلال كل منهما سبيلاً مغايرًا عن الآخر.
لقد غيرت الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، التي يجب على الإيمان دومًا أن يقيس ذاته بها، مفهوم العقل؛ فقد قامت بشكل ما بتهميش العقل الذي كان يبحث عن الحقيقة النهائية للأمور، لتفسح المجال لعقل يكتفي باكتشاف الحقائق العرضية للقوانين الطبيعية. للأبحاث العلمية قيمتها الإيجابية بكل تأكيد. فاكتشاف وتطور العلوم الحسابية، والفيزيائية، والكيميائية، والتطبيقية هو ثمرة العقل، وتعبر هذه العلوم عن الذكاء الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يغوص في أعماق الخليقة.
والإيمان، من ناحيته، لا يخاف تقدم العلوم والتطور الذي تؤدي إليه هذه الأخيرة عندما يكون هدفها الإنسان، وخيره وتقدم البشرية بأسرها. كما يذكر الكاتب المجهول للرسالة إلى دوينيتوس: “ليست شجرة المعرفة بل العصيان هو الذي يحمل الموت. ما من حياة دون معرفة، وما من معرفة أكيدة دون الحياة الحقة” (12، 2. 4).
ولكن يحصل ألا يوجه العلماء أبحاثهم نحو هذه الأهداف دومًا. فالربح السهل، أو الأسوأ من ذلك، الكبرياء الذي يدفع البعض إلى أخذ مكان الله، يلعبان أحيانًا دورًا مصيريًا. هذا هو نوع من كبرياء العقل الذي قد يأخذ خصائص تشكل خطرًا حتى على البشرية بالذات. فالعلم لا يستطيع أن يبتكر مبادئ أخلاقية؛ بل يستطيع فقط أن يقبلها وأن يعترف بها كضرورية لتبديد ما قد يطرأ على العلم من سلبيات. تضحي الفلسفة واللاهوت في هذا الإطار عناصر مساعدة لا غنى عنها، ويجب أن يواجهها المرء لكي يتحاشى أن يسير العلم منفردًا في طريق معوج محفوف بالمفاجآت التي لا تخلو من المجازفات. هذا لا يعني على الإطلاق حد البحث العلمي أو منع التقنية من ابتكار وسائل التطور؛ بل يعني الحفاظ على حس المسؤولية الذي يجب أن يتحلى به العقل والإيمان نحو العلم، لكيما يبقى هذا الأخير في خط خدمته للإنسان.
ما زالت العبرة التي نتعلمها من القديس أغسطينوس تحافظ على آنيتها، إذ يتساءل أسقف هيبونا: “أين يصل من يجيد استعمال العقل، إن لم يكن إلى الحقيقة؟ ليست الحقيقة هي التي تصل إلى ذاتها عبر التفكير، بل هي ما يبحث عنه من يستعمل العقل… لذا اعترف بأنك لست أنت الحقيقة، لأن الحقيقة لا تبحث عن ذاتها؛
أما أنت فقد وصلت إليها، لا بانتقالك من مكان إلى آخر، بل عبر طلبها في موقف فكري” (في الدين الحق، 39، 72). كأني به يقول: من أي ناحية يأتي البحث عن الحقيقة، تبقى الحقيقة واقعًا يوهب ويمكن التعرف عليه حاضرًا في الطبائع. إمكانية فهم الخليقة ليس ثمرة جهد العالِم، بل هو شرط يعرض عليه بغية السماح له أن يكتشف الحقيقة الحاضرة فيها. “التفكير لا يخلق هذه الحقائق – يتابع أغسطينوس تفكيره – بل يكتشفها. فالحقائق تكمن في ذاتها قبل أن يتم اكتشافها، ولدى اكتشافنا لها تعمل هذه الحقائق على تجديدنا” (المرجع نفسه، 39، 73). وعليه، يجب على العقل أن يقوم بمسيرته، تعضده استقلالية وغنى تقليد الفكر.
إضافة إلى ذلك، يشعر العقل ويكتشف أن أبعد مما توصل إليه وحازه، هناك حقيقة لن يستطيع اكتشافها انطلاقًا من ذاته، بل يستطيع فقط أن يتلقاها كهبة مجانية. حقيقة الوحي لا تضاف إلى الحقائق التي اكتشفها العقل؛ بل هي تطهر العقل وترفعه، وتسمح له بالتالي أن يوسع آفاقه لكي يدخل في إطار البحث الذي لا ينضب، كما أن السر بالذات لا يسبر غوره. لقد أخذت الحقيقة الموحاة، في “ملء الأزمنة” (غلا 4، 4)، وجه شخص، هو يسوع الناصري، الذي يعطي الأجوبة النهائية والحاسمة على سؤال المعنى الذي يطرحه كل إنسان. وبما أنها تلمس كل إنسان يبحث عن الفرح والسعادة والمعنى، تتخطى حقيقة المسيح كل الحقائق الأخرى التي يستطيع العقل أن يتوصل إليها. ولذا، ففي السر يستطيع الإيمان والعقل أن يجدا إمكانية حقيقية أن يقوما بمسيرة مشتركة.
يعقد في هذه الأيام سينودس الأساقفة حول موضوع “كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها”. كيف لنا ألا نرى المصادفة السعيدة بين هذا الحدث ومؤتمركم. يدفعنا الشغف بالحقيقة إلى الدخول في ذواتنا لكي نجد في الإنسان الداخلي الحس العميق لحياتنا. يجب على الفلسفة الحقة أن تقود كل شخص إلى اكتشاف الأهمية الأساسية لمعرفة حقيقة الوحي بالنسبة لكرامته كإنسان. أمام الحاجة إلى المعنى التي لا تعرف هوادة ما لم تصل إلى يسوع المسيح، تكشف كلمة الله طابعها كجواب نهائي. كلمة وحيٍ تضحي حياة وتطلب أن يتقبلها المرء كمنهل حقيقة لا تنضب.
إذ أتمنى لكل منكم أن يشعر أكثر فأكثر بشغف الحقيقة، وأن يقوم بكل ما بوسعه لكي يتجاوب مع متطلباتها، أود أن أؤكد لكم أني أتابع التزامكم بتقدير وتعاطف وجداني، وأرافق أبحاثكم بصلاتي. وتأكيدًا لهذه العواطف أمنح الحاضرين، وجميع أحبائكم البركة الرسولية.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.