الحقيقة المسيحية: دعوة إلى الحرية والعمل

في سبيل عقلانية منفتحة (6)

Share this Entry

بقلم روبير شعيب

روما، مايو 2009 (Zenit.org). – الحقيقة التي يقدمها لنا الوحي المسيحي هي “شخص” و “حدث”؛ حدث يدعو الإله المثلث الأقانيم البشريةَ للاشتراك فيه. وبالتالي فالإيمان المسيحي والحقيقة المسيحية لا يمكن اختزالها بسلسلة من العقائد والأفكار والتراكيب النظرية، بل هي فعل “آمين”، فعل قبول وثقة وتقبّل يقوم به الإنسان جوابًا على “آمين” و “نعم” الله في يسوع المسيح. الحقيقة المسيحية هي مشروع شخصاني لا يتوجه إلى عقلنا فقط، بل أيضًا إلى إرادتنا، إلى مخيلتنا، إلى عواطفنا. وللدخول في تواصل غير مجزوء مع هذه الحقيقة، لا بد من تخطي نظرة العقل المحدود في أطر المنطق الحسابي.

لقد لاحظ اللاهوتي السويسري الكبير هانس أورس فون بالتازار أن تعريف الحقيقة كـ “مطابقة العقل والواقع” (veritas est adaequatio intellectus ad rem) (راجع الخلاصة اللاهوتية، 1، المسألة 16) الذي تقدمه الفلسفة المدرسية متأثرة بفكر أرسطو هي صحيحة في الإطار المبدأي، ولكنها لا تعطي الحقيقة حقها إذ تحصر اعتبارها لـ “البعد النظري للحقيقة” وتتجاهل البعد الشخصاني واشتراك الحرية والإرادة. في هذا التعريف للحقيقة يتم تسليط الضوء على الرباط بين “الحق والخير، كصفات متسامية للكائن، ولكن فقط في وجهة نظر أنتروبولوجية تعتبر تواجد العقل والإرادة جنبًا إلى جنب، بدل أن تعتبرهما بتداخلهما الصميم الواحد في الأخرى، لا بل بتماثلهما الحقيقي” (H.U. von Balthasar, “Teologia e santità”, in Verbum Caro. Saggi teologici, I, Milano 2005, 193).

بكلمات أخرى، يعتبر التعريف المذكور أعلاه “الحقيقة” بمعزل عن الواقع المعاش وعن إرادة الشخص البشري اللذين يلعبان دورًا أساسيًا في فعل القبول العقلاني لواقع الإيمان-الدعوة. فليس هو الجهل وحده الذي يمنعنا عن عيش الحقيقة – كما كان يعتقد سقراط – بل أيضًا المناطق الداكنة في كياننا، وعدم جهوزيتنا، وخطيئتنا.

بكلمات مبسطة يمكننا أن نفهم من اعتبار بالتازار أن المطابقة “ adaequatio” قبل أن تكون عقلية هي مطابقة وجودية، شخصانية وأخلاقية. مقاربة الحقيقة المسيحية هي أمر مستحيل بمعزل عن انفتاحي الوجودي على الحدث المسيحي.

تجد قراءة بالتازار هذه مصادقة بيبلية في إنجيل يوحنا من خلال الثنائي المترابط “الحق-الحرية”: يقول يسوع: “تعرفون الحق والحق يحرركم” (يو 8، 32). كما ويحوز مفهوم الحقيقة توضيحًا جزيلاً عبر المقاربة الهامة بين “الحقيقة” و “العمل” حيث يتحدث يسوع عن “عمل الحق” (poiein ten aletheian) و “المجيء إلى الحق” ( راجع يو 3؛ 1 يو 1، 6). يشرح يوحنا “فعل الحق” كقبول للإيمان بيسوع. وبعد أن يصرح بأن “النعمة والحق أتيا مع يسوع المسيح” (يو 1، 17)، يوضح يسوع الموقف الذي يتوجب على المرء أن يعيشه في حضرة الحقيقة (راجع يو 3، 21).

فعل الحق هو الشرط الأساسي للأدبيات المسيحية بحسب القديس يوحنا الإنجيلي. ففعل الحق لا يؤدي فقط إلى إصلاح وجودي فردي بل إلى إصلاح العالم، وهذا هو البعد الثوري للإنجيل الذي هو خميرة تغير وجه العالم. ومن هنا ندرك أن “الحقيقة” مرتبطة بـ “العمل، و “الإيمان القويم” (orto-dossia) يرتبط بشكل وثيق بـ “العمل القويم” (orto-prassi)، لأن الحقيقة المسيحية هي حقيقة “تُطبَّق” ولا “تُعرَف” وحسب.

الإنسان الذي يلتقي بحقيقة الله يتلقى الدعوة لعمل الحق (يو 3، 21) أي أن يلتزم بحريته وأن يسير بتدرج نحو الإيمان. وحده من يعمل الحق يتوصل إلى “معرفة الحق” (2 يو 1): هذه المعرفة هي نعمة تأتي من الله الآب ومن يسوع المسيح ابن الآب (2 يو 3). ومن ثم هذه المعرفة تجعل التلميذ “خاصة الحق”، فيعيش نوعًا من تواجد طبيعي مع الحقيقة التي تقيم فيه: هذه الحقيقة تجعله يصغي بطواعية لصوت يسوع (يو 18، 37) ويعيش المحبة نحو الإخوة (1 يو 3، 18 – 19) لأن الإقامة في الحق يجب أن يُترجم عمليًا في أعمال الحق (1 يو 3، 18).

خلاصة القول: يمكننا أن نقول أنه في العمل، في الاختبار الملموس، في عيش الحياة الداخلية بشكل متكامل، يدخل الله في حياة الإنسان ويعرف الإنسان حقيقة الله: لأن “العمل” هو “الوعاء الوحيد الذي يستطيع أن يستوعب هبة حقيقة الوحي الفائقة الطبيعة، التي تتوق إليها الإرادة، والتي يهبها الله للإنسان. وفقط عندما نعمل بهذه الحقيقة نكتشفها (راجع: R. Aubert, Le problème de l’acte de foi. Données traditionnelles et résultats des controverses récentes, Louvain 1950, 281).

يحتل في هذا الإطار أهمية كبرى تفكير وعمل الفيلسوف الفرنسي المسيحي موريس بلوندل (Blondel) الذي يصرح بأن الإيمان الحق هو أكثر من العيش بحسب معرفة زائدة لا يملكها من لا يؤمن. ليس الارتداد بحسب نظرة بلوندل نوعًا من “الاقتناع العقلي بامتياز العقيدة” بل هو “السماح للحياة الجديدة أن تجري في عروقنا، هذه الحياة التي هي أسمى من حياتنا؛ ومن خلال موقف تواضعنا هذا أن نجذب الله إلى داخلنا” (Ibid., 287).

بعد أن استعرضنا بشكل مقتضب مختلف أوجه الحقيقة المسيحية، سنتوقف في الأقسام التالية من دراستنا على “الحواس” البشرية التي تمكننا أن نتقرب بشكل أفضل من الحقيقة بحسب المفهوم الذي عرضناه.

 

* * *

– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما، ويواظب في إيطاليا ولبنان على إلقاء محاضرات ذات طابع بيبلي، روحي ثقافي ولاهوتي.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير