” لما نهمنا تكبدنا التعرية الاولى وحين غلبنا من المذاقة المرة صرنا من الله منفيين، لكن هلم لنعود نحو التوبة ونتقي الحواس المحاربة ممتلكين الصيام مدخلا، مشددين القلوب بأمل النعمة لا بالأطعمة التي ما افادت من تصرف بها. وليؤكل منا حمل الله الذي قدم لأجلنا ذبيحة في ليلة قيامته الطاهرة…” (من صلاة مساء احد مرفع اللحم).
مع احد مرفع اللحم نصل الى المرحلة الاخيرة من التهيئة قبل الدخول في الصوم الكبير والانطلاق في رحلة نشارك فيها المخلص في مسيرته صعودا الى اورشليم، الى الصليب والقبر والقيامة، ارتقابا منا لملء استعلان الملكوت في المجيء الثاني. اليوم نرفع اللحم عن موائدنا قبل ان نرفع الجبن واللبن والسمك عن موائدنا في الاحد القادم، وكأن الكنيسة تود ان تدخلنا تدريجيا في الصوم لأنها تعي ضعفاتنا البشرية. اذا كان الصوم رحلة مقدسة، فاليوم هو اليوم الذي نقطع فيه بطاقة سفرنا نحو الفصح ونحزم الحقائب لننطلق بالرحلة الاحد القادم.
اسس الصوم اللاهوتية متجذرة في الكتاب المقدس:
+ في العهد القديم، توصي الشريعة الموسوية (لا 16: 29 و23: 27) الشعب بأن يذللوا نفوسهم، اي ان يصوموا معلنين التوبة، يوم عيد الغفران في العاشر من الشهر السابع في اوائل الخريف. بعد السبي اضيفت اربعة ايام للصيام والتوبة ايضا (زك 8:19): تذكارا لحصار اورشليم في الشهر العاشر (2 مل 1:25) وسقوطها في الشهر الرابع (2 ملو 25: 3 و 4)، وخراب الهيكل في الشهر الخامس (2 مل 8:25 و9) ومقتل جدليا واليهود الذين بقوا في ارض يهوذا اثناء فترة سبي بابل، في الشهر السابع (2 مل 25:25).
بالاضافة الى هذه الايام نرى امثلة كثيرة عن صوم الشعب بأكمله او كأفراد في مناسبات عديدة. النبي موسى صام اربعين يوما على جبل سيناء قبل ان يستلم الوصايا العشر (خر 34: 28) وسار ايليا الى جبل حوريب لا يأكل ولا يشرب اربعين يوما حتى تراءى الله له (1 مل 19: 8). اما دانيال فقد اعطاه الله فهما ومعرفة بعدما صام ثلاثة اسابيع (دا 17:1 و10 2 – 21). كذلك نادى اهل نينوى “بصوم ولبسوا مسوحا من كبيرهم الى صغيرهم” (يونان 3 :5) عندما اعلن لهم يونان غضب الرب عليهم.
اذا، كان افراد الشعب يعلنون الصوم دلالة على توبتهم عندما كانوا يشعرون بخطيئتهم وابتعادهم عن الله (نحميا 9: 1 – 1,2 صمو 7: 6). وكانوا ينادون بالصوم احيانا في ايام الشدة (أرميا 36: 9, يوئيل 1: 14) كما كانوا يصومون ليتهيأوا لحدث الهي مهم كما كان مع موسى وايليا.
في الصوم كان الشعب ينقطع عن الطعام من غروب الشمس الى الغروب التالي، وكانوا يلبسون المسح على اجسادهم وينثرون الرماد على رؤوسهم، وكانوا يصرخون ويتضرعون ويبكون (1 ش 22: 12، يوئيل 2: 12 – 17، يونان 3: 5 و6) كما كان الصوم يرافق الصلاة الملحة والمتواصلة (عزرا 8: 21 – 23).
الصوم مع انبياء العهد القديم، وبخاصة اشعياء ونحميا، ليس اذلالا وتعذيبا للنفس، ولكنه مدخل الى فرح الرب، تماما كما صار الصوم في الكنيسة المدخل للوصول الى فرح القيامة (نحميا 8: 9 – 11، اشعياء 58: 6 – 14). من المهم ايضا ان نعي ان الصوم الحقيقي في العهد القديم لم يكن صوما خارجيا فقط بل يتضمن الاعراض عن الاثم والاقبال على عمل الرحمة (اشعياء 85): “اليس هذا صوما اختاره حل قيود الشر. فك عقد النير واطلاق المسحوقين احرارا وقطع كل نير. اليس ان تكسر للجائع خبزك وان تدخل المساكين التائهين الى بيتك. اذا رأيت عريانا ان تكسوه وان لا تتغاضى عن لحمك” (58: 6 و7).
+ في العهد الجديد نقرأ ان الرب يسوع صام أربعين يوما ثم انطلق في بشارته بعد ان جربه الشيطان ثلاث مرات (متى 4: 1 – 11). وفي اثناء بشارته سأله تلاميذ يوحنا: “لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرا واما تلاميذك فلا يصومون. فقال لهم يسوع هل يستطيع بنو العرس ان ينوحوا ما دام العريس معهم. ولكن ستأتي ايام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون” (متى 9: 14 – 15). وهذا يعني انه بعد ان يقوم المسيح ويصعد الى السماء ويرسل الروح القدس حينئذ يصومون، وهذا ما فعله التلاميذ لاحقا.
لقد علم الرب ان من يصوم يجب ان لا يتفاخر بأنه يصوم، بل يجب ان يدهن رأسه ويغسل وجهه “لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء” (متى 6: 18). كما علم ان الصوم ترافقه الصلاة، اذ عندما لم يستطع التلاميذ شفاء الانسان المصاب بالصرع قال لهم الرب “واما هذا الجنس فلا يخرج الا بالصلاة والصوم” (متى 17: 21) اما الرسل فكانوا يصومون ويصلون قبل اخذ القرارات الهامة. لقد صاموا قبل ان يختاروا برنابا وشاول (اي بولس) للانطلاق الى البشارة في العالم (أع 13: 2 و3).
عن موقع كنيسة القديسة تيريزيا في حلب