ننشر في ما يلي القسم الثاني من المقابلة
اسهم تصريح البابا بنديكتوس في تفاقم المشكلة بين المسيحيين والاسلام, وأسفه أمام سفراء الدول العربية والاسلامية لم يبدل شيئاً في المشهد القائم, حيث قرر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مقاطعة الفاتيكان حتى إشعار آخر… وبالنتيجة مسيحيو الشرق هم المتأذون بالدرجة الأولى! ماذا كان تعليقكم؟ وما رأيكم بزيارته لتركيا اخيرا؟
تصريح البابا تصريح علمي جاء في سياق محاضرة علمية, والاسلام أكبر من أن يحمل كلمة ويعتبرها ضده, والمفروض أن تواجه الكلمة بكلمة والمحاضرة بمحاضرة وليس بشن الهجوم والعداء لأن الدين الاسلامي والدين المسيحي دين محبة وتفاهم وليس دين خصومات وعداءات. وإن زيارة البابا إلى تركيا ونجاحها دينياً على مستوى الكنيسة المسيحية وعلى مستوى العلاقات مع الاسلام في تركيا وزيارة قداسة البابا إلى الجامع الأزرق والوقت الذي كرسه محتوى للزيارة, ومحتوى الخطابات التي وجهها إلى مختلف الفئات: المسؤولين في وزارة الديانات والسلك الدبلوماسي والمفتي, والمشاعر التي أظهرها في زيارة الجامع تبين أن اللقاء والحوار يعطيان دائماً أثماراً ونتائج إيجابية, لا بل يمكننا أن نقول أن البابا وقع في حب تركيا وترك قلبه هناك كما قال وسبق أن ذكره سلفه يوحنا الثالث والعشرون الذي كان مغرماً بتركيا وبالشعب التركي… وهنا يصح قول علي بن أبي طالب أن الانسان عدو ما يجهله, وكذلك يصبح قول بولس الرسول في المحبة أنها لا تسقط أبداً, وعندما يحب الانسان حقاً فيمكن أن يتخطى كل الصعاب وهكذا أحب الله العالم ليخلص العالم, وليلتقي بالانسان خليقته كما يقول القرآن الكريم, والمخلوق على صورته ومثاله كما يقول الكتاب المقدس, و نقول للجميع: لا نخف أن نتلاقى وأن نتحاور وأن نتحاب فهذا هو سبيلنا ومستقبل العالم وخصوصاً الشباب الذين يسخرون بالحدود وبالفوارق الجنسية والعرقية وينظرون إلى عالم جديد وسماء جديدة وأرض جديدة.
ما دور الكنيسة الانطاكية في الشرق؟
الكنيسة الانطاكية بمختلف تسمياتها الخمس : رومية ارثوذكسية, رومية ملكية كاثوليكية سريانية ارثوذكسية وكاثوليكية ومارونية. هي المكان الكنسي المميز للعيش المشترك, وبالتحديد للعيش مع الاسلام ولأجله وفي العالم العربي ولأجله. والمكان المفضل لتفعيل الحضور المسيحي. هذا واقع تاريخي وجغرافي. ولكن الأهم وبيت القصيد في ذلك هو: «هل يكتشف وكيف ومتى أبناء كنيسة انطاكية رسالتهم في هذا التاريخ المسيحي الاسلامي, وفي هذه الجغرافية المسيحية الاسلامية. وهل يكتشفون بأن هذا التاريخ هو تاريخ الخلاص. وهذه الجغرافية هي جغرافية خلاص وهذه الحضارة هي حضارة خلاص؟
ربما ينتقدني البعض, وقد قرات ذلك في صحيفة فرنسية, انني أردد هذه الافكارفي غالب رسائلي أو حتى فيها كلها. إنني عالم بذلك وحريص عليه. لأنني في قناعة استكشفها كل يوم, واتعمق فيها واختبرها وهي هوسي وهمي وهاجسي, وهي: كيف اتواصل مع إخوتي المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات وجميع أبناء وبنات رعايانا في كنيستنا المقدسة, بشأن هذه القناعة وكيف أوصلها إليهم, فتصبح قناعة كنسية, قناعة الرعاة والرعية! وأعاود الكرة وأقول: إذا لم نصل إلى هذه القناعة, فلا مستقبل لوجودنا في هذا الشرق العربي, ولا مستقبل لحضورنا فيه, ولا مستقبل لشهادتنا وخدمتنا فيه.
كيف تقيم الأوضاع في المنطقة العربية, ما بعد الحرب على لبنان, الاغتيالات, والنيران المشتعلة والاسلحة المرعبة والمميتة في العراق وفلسطين ولبنان؟
بعد الحرب على لبنان نجد ذواتنا امام منعطف تاريخي خطير جداً ومنذر بويلات لا تحصى. ولذا على العرب والاسرائيليين ان يتخذوا كل من جهته العبر الحقيقية من هذه الحرب الحاقدة والمدمرة والدامية في لبنان, والتي فاقت ضراوتها باقي الحروب في المنطقة. ونحن نعتبر ان السياسة التي تقوم على ممارسة الضغوط المختلفة على هذه او تلك من الدول العربية, أو سواها, إيران وسوريا والأحكام القاسية والتنكيل بـ«حماس» او «حزب الله» او بالأصولية والمتطرفين الاسلاميين, إنما هو هروب إلى الأمام, وسياسة النعامة والتنصل من تحمل المسؤولية الحقيقية, التي تفرض على الجميع التصميم الصريح والسعي الصادق وراء توافق واتفاق حقيقيين في إحلال السلام وتحقيق العدالة في الأرض المقدسة التي أصبحت, وعلى مدى اكثر من نصف قرن, ارض الحرب وأصل كل الصراعات والحروب في المنطقة وفي العالم. إننا نحن الكنيسة العربية, وكنيسة العرب وكنيسة الاسلام, نتوجه بعزم وتصميم إلى العرب إخواننا وإلى الدول الاوروبية وإلى اميركا, ونحذر الجميع تحذيراً شديداً, مشيرين إلى مغبة التسويف إلى ما لا نهاية له, في حل القضية الفلسطينية, التي يعني قطع الأمل من حلها.
كيف يمكن لكم قراءة مشروع شرق أوسط جديد من وجهة دينية؟
شرق اوسط جديد مصطلح نادت به كوندوليزا رايس والأميركيون من دون أن يكون لهذا الطرح برنامج محدد… وتعالت الأصوات المنادية به في خضم الحرب والنزاعات والتجاوزات. ولكننا نعلم علم اليقين أن الشرق الأوسط الجديد لا يتحقق إلا من خلال حل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الاسرائيلي. ويخطئ الغرب إذا تصور زعماء اوروبا واميركا ان قسم
ة العالم العربي هو المناخ لولادة هذا الشرق الاوسط الجديد.
ونحذر دعاة هذه التصورات ومروجيها: لا شرق أوسط جديد في عالم عربي منقسم! ومن يراهن على تقسيم العالم العربي إلى جزر طائفية وكانتونات لكي يولد الشرق الاوسط الجديد, فإنه خاسر لا محالة. إذ لا يمكن ان تكون ديمقراطية في دولة عربية من دون الأخرى, ولا مجتمع ديمقراطي في بلد من دون الآخر. إن خلق تحالفات تهدف لتقسيم العالم العربي, وتحويله إلى دويلات طائفية, يعني تدمير مستقبل المنطقة. وبالعكس في الاتحاد قوة. وقوة العالم العربي تكمن في وحدته, وفي الثقة بين فئات الأقطار العربية. لا بل إن نجاح قيام شرق اوسط جديد, تجاه اوروبا واميركا, يكمن في بعث الثقة بين الشرق والغرب, وبين أوروبا والبلاد العربية, وبين المسلمين والمسيحيين, وبين جميع المواطنين. وهنا يكمن دور المسيحيين في العالم العربي وفي ميلاد شرق أوسط جديد حقيقي. دور المسيحيين العرب هو أن يعملوا على خلق مناخ من الثقة بين الغرب من جهة, والعالم العربي والاسلام من جهة أخرى. إن تاريخنا العربي, وبما أننا جزء لا يتجزأ من هذا العالم العربي والاسلامي, يخولنا القيام بهذا الدور الهام في علاقات الشرق والغرب. لهذا فإننا كمسيحيين مشرقيين عرب, نتوجه إلى الغرب عموماً, وإلى أوروبا والولايات المتحدة الاميركية: اعطونا ثقتكم! ونحن نبادلكم الثقة! ثقوا بالعالم العربي, وهو سيثق بكم! لا تعملوا على انقسام العالم العربي, والدول العربية, من خلال الأحلاف… بل ساعدوا هذا العالم على تحقيق وحدته وتضامنه. لا تسعوا إلى زرع الفتنة والتفرقة في العالم العربي, وبين المسيحيين والمسلمين, فكلنا عرب, ونقول بصراحة, إذا نجحتم في تقسيم العالم العربي والمسلمين فيما بينهم وشعبهم وفرقهم, وفي تقسيم المسيحيين والمسلمين, فإنكم ستبقون تعيشون في خوف من العالم العربي والاسلامي.
هناك من يرى من الكتاب والباحثين أن هناك تقصيراً إعلامياً في إيصال الحقيقة للشعب والجماهير في نصف الكرة الغربي, من ان «كتاب المسيحيين المقدس» ليس صك اليهود المقدس لملكية فلسطين منذ ما يزيد على 3500 سنة كما يزعم بن غوريون ويأخذ بزعمه جماهير مغفلة تزيد على النصف من سكان هذا الكوكب وإنما هو صك للفلسطينين؟ كيف يمكن برأيك أن يحل هذا التقصير ليخدم بالنهاية قضية فلسطين؟
لا شك في أن قضية فلسطين قضية سياسية وليست قضية دينية, وهنا لا بد من الاشارة إلى أهمية دور أوروبا المسيحية في عملية خلق الثقة بين الغرب والشرق, وإننا كمسيحيين وكاثوليك, في تواصل دائم مع عالمنا العربي ومجتمعنا الاسلامي, نتوجه إلى اختنا الكبيرة كنيسة روما المتصدرة بالمحبة, إلى الكرسي الرسولي الروماني, وإلى اخواتنا كنائس الغرب الكاثوليكية في اوربا وأميركا, داعين إياهم جميعاً إلى مضاعفة الجهود وبذل المساعي لدى دولهم متضامنين معنا نحن مسيحيي الشرق لتحقيق الهدف الواحد المشترك, ألا وهو إحلال السلام. ونشكر هنا البابوات الذين اهتموا اهتماماً مميزاً بالقضية الفلسطينية منذ بداياتها على عهد البابا بيوس الثاني عشر, يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس, ويوحنا بولس الثاني وصولاً إلى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر الذي يتابع التطورات الاليمة المأسوية في هذه المنطقة, بإحساس مرهف ومسؤولية مثالية. وهو الذي قال: «إن التنصل من المسؤولية تجاه إحلال السلام في الشرق الأوسط موقف لا أخلاقي». وقد رافق مراحل الحرب المدمرة على لبنان بكل حدب واهتمام, مشيراً إلى مسؤولية كل إنسان في سبيل إحلال السلام في المنطقة.
نلاحظ ونحن في عصر العولمة غلبة المصالح المادية على المصالح الروحية, واستبعاد الدور الديني في القرار النهائي الذي بات فقط بأيدي القوة والمصالح, ما رأيك بهذا؟
الواقع ان المصالح المادية تطغى على التوجهات الدينية, وهذا يقود إلى صراعات اكثر وإلى نماء الظلم وتسلط الدول الغنية على الفقيرة والمادة على الروح, وهذا ما يسبب من جهة اخرى نماء الاصولية والارهاب والعنف وايديولوجية العنف في المجتمعات المختلفة, وهنا يصح قول الكتاب المقدس «ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم لله», ولذلك مهمة رجال الدين والمؤمنين أن يتبنوا القناعات والثوابت الايمانية وهي الكفيلة بأن تبني عالماً يشعر الانسان فيه بكرامته وينال حقوقه الانسانية كاملة. وتصبح العولمة في خدمة الانسان وليس في استعباده من جديد, فقوة الايمان هي قوة تفوق الاسلحة مهما كانت فتاكة ومتطورة.
يروج البعض لنهاية العالم ومنهم كتاب «فرانك كيرمود» الذي حمل عنوان «نظرية الكارثة ونهاية العالم» قبل أعوام عدة, وكذلك كتاب فوكوياما نهاية التاريخ… برأيكم مثل هذه الكتب من تخدم؟
نهاية التاريخ ونهاية العالم كلام تهريجي لا منطق فيه ولا أساس له, ومثل هذه الكتب تهدف للربح المادي فقط. ما تعاقب من صراعات دامية في المنطقة على مدى أكثر من خمسين سنة, بدل أن تكون من علامات نهاية العالم, فلتكن علامات بداية عالم جديد وأرض جديدة وسماء جديدة, كما يقول صاحب المزامير «العدل والأرض تلاثما».
نأمل بالسلام في الشرق الأوسط, هل من بوادر تبشر بذلك؟
الأمر متعلق بالعالم العربي واسرائيل هل هم يريدون السلام ف
علاً, السلام هو اليوم التحدي الأكبر والجهاد الأكبر والخيرالأكبر! والنصر الحقيقي والضمانة الحقيقية لمستقبل الحرية والكرامة والتقدم والازدهار والأمن والأمان لأجيالنا الطالعة, ولشبابنا, مسيحيين ومسلمين, وهم مستقبل أوطاننا وصانعو تاريخها وحاملو لواء الايمان والأخلاق فيها. ورسالتنا الميلادية لهذا العام حملت عبارات ثلاث السلام, العيش المشترك. الحضور المسيحي في المشرق العربي. هذه العناوين الثلاث مرتبطة ارتباطاً عضوياً مصيرياً وثيقاً. وهذا ما شرحناه في رسائلنا المختلفة التي وجهناها على أثر الحرب المدمرة الحاقدة على لبنان في يوليو واغسطس 2006: الى الدول العربية, وإلى الدول الثماني الكبرى, وإلى دول المجموعة الأوروبية, وإلى وزراء خارجية الدول العظمى, وإلى الرئيس شيراك, وإلى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر, وإلى المجالس الاسقفية الكاثوليكية في العالم اجمع. أردنا من خلالها أن نركز على أهمية السلام في المنطقة فهو مفتاح كل الخيرات التي تحتاج إليها منطقتنا المعذبة منذ عقود.
هل من توصيات للشباب؟
اذكر الابناء والاخوة والشباب بمرسومي البطريركي الأول: لا للهجرة. واطلب منهم ان يأخذوا هذا الكلام مأخذ الجد. وعلينا ان نشجع بعضنا البعض على البقاء هنا, وندحض اقوال الذين يرددون: البلد ليس لنا! ماذا يمكننا أن نعمل؟ نقول للجميع لا للتخاذل من المسؤولية! لا للانسحاب من حلبة الحياة الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية! لا للقوقعة! لا للغربة النفسية! لا للغربة في الوطن ولا للغربة عن الوطن ولا للشعور بالدونية! ولا للتهميش: ولا لمن يهمشنا ولا لمن يريد أن يهمش ذاته! لا لليأس من أوضاع أوطاننا العربية ومجتمعاتنا فيها. لا للاستسلام وللاحباط أمام أحداث هنا وهناك, يعاني منها أبناؤنا, عاشوها واختبروها او سمعوا عن أخبارها!لا للانطواء على الذات, أو على الطائفة! لا للخوف من مظاهر الأصولية والتطرف والحركات التكفيرية والأعمال الارهابية ومظاهر الفوقية والتمييز الديني. فهذه أمور لا تمت إلى الدين بصلة, لا إلى الدين المسيحي ولا إلى الدين الاسلامي, ولو قام بها مسلمون أو نسبت إلى مسلمين, ربما نعيش إلى جنبهم وهم رفاق العمل والمهنة وجيران حارتنا.