تجذر، تجرد، تجلي: دينامية الحياة المسيحية

في سبيل عقلانية منفتحة (11)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بقلم روبير شعيب

روما، الخميس 18 يونيو 2009 (Zenit.org). – لقد تطرقنا في أقسام هذه المقالة العشرة إلى بعض أبعاد النظرة المسيحية إلى الحقيقة وعرضنا بعض فسحات هذا الأفق الواسع الذي يلف الإنسان ويجذبه، ويدعوه إلى القبول، والإصغاء، والحرية والعمل. سعينا في هذه النظرة المقتضبة إلى أن نبرهن أن العقل البشري هو عقل أوسع من المنطق الحسابي، منطق الورق والوثائق، وألقينا نظرة إلى أبعاد الواقع التي تتجاوز مقدرات العقل وحده.

نذكر في هذا الإطار أن البابا بندكتس السادس عشر نفسه تحدث في خطبة ريغينسبورغ عن “شجاعة الانفتاح على رحاب العقل”، جاعلاً من هذا الانفتاح المقدام “برنامج لاهوت ملتزم بالتفكير بالإيمان الكتابي، يستطيع أن يدخل في جدل وحوار مع زمننا المعاصر”.

إن هذه المقالة هي جواب إيجابي على التحليل السلبي الذي قدمناه في مقالة سابقة ” الأسطورة المنطقية.  دراسة تاريخية في نشأة الإنفصال بين الإيمان والعقل في العصر الحديث“. وما أردناه من هاتين المقالتين، ليس إلا الرغبة في أن يقارب الإنسان الإيمان بكامل إنسانيته، دون نفي أي بعد من أبعاد وجوده. وذلك لإيماننا بأن الإيمان لا يؤله إلا ما قد أنسنه الإنسان، وبأن الإيمان القويم هو في العقل القويم والمتكامل. فقد صدق بليز باسكال عندما قال ما معناه: مع قليل من المعرفة فقدت الإيمان، ولما تعمقت بالمعرفة عدت واكتشفت الإيمان.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًا في ختام هذه المقالة. هل يكفي حقًا أن ننفتح على أبعاد العقل التي تتجاوز العقل نفسه لنصرح بأننا مؤمنين؟ هل الإيمان هو مسألة معرفة، بحسب المفهوم الذي عرضناه، أي معرفة عقل منفتح، معرفة عقل منفتح على الشعور، والمصورة…؟ أم أن هناك أكثر من ذلك؟

نعم هناك أكثر من ذلك. وقد أشار إليه القديس بولس في الفصلين الثاني عشر والثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. هناك ما يسميه رسول الأمم “السبيل الأفضل”. ولكن كان من الضروري أن نمهد السبيل لهذا السبيل الأفضل؛ ألا نبدأ بالإلهيات، والفضائل الإلهية، متناسين الركائز البشرية. كان ضروريًا أن نبدأ بالطبيعة المنفتحة، قبل أن نتحدث عن النعمة التي تكللها. فمنطق التجسد يفرض علينا ألا نحلق في آفاق اللاهوت قبل أن نمشي في معارج بشريتنا لأنه، بحسب ما لاحظ بحق القديس توما الأكويني: (Gratia supponit naturam et perficit eam) “النعمة تفترض الطبيعة وتكملها” (Scriptum super Sententiis, lib. 4, d. 2, q. 1, a. 4).

لا يمكننا أن نضع خمر معرفة الله الجديد في آنية العقل المنغلق والضيق العتيقة. ولا يمكننا أن نبني ملكوت الله على أسس بشرية ممزقة ومتشرذمة. ولكن إذا كان صحيحًا من ناحية أنه يجب أن ‘نهيئ طريق الرب‘ كالمعمدان، من ناحية أخرى، لا بد أن تهدف حركة الحياة المسيحية إلى ما هو أسمى، ما يسميه القديس اغناطيوس دي لويولا “ magis” [فالذي يأتي بعدي هو أعظم مني] (راجع مت 3، 3 . 11).

يجب، بكلمات أخرى أن نتبع حركة وجود المسيح لأن “سر المسيح هو سرنا. وما يتم في الرأس يجب أن يتحقق في الأعضاء. تجسد وموت وقيامة: تجذر ، تجرد، تجلي. ما من روحانية مسيحية حقة إلا وتتضمن هذا الإيقاع الثلاثي” (H. De Lubac, Paradoxes, Paris 1999, 43-44).

من هذا المنطلق، تنفتح مقالتنا طبيعيًا إلى معالجة موضوع التقدم، الذي سنعالجه، بمعونة الرب، في مقالتين لاحقتين. الأولى ستتطرق إلى موضوع “أسطورة التقدم”، حيث نعالج توق العصر الحديث إلى تجسيد التطور والآخرية (altruism) بمعزل عن الله، ومقالة لاحقة تعالج مفهوم التقدم بحسب الفكر المسيحي والتصوف المسيحي.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير