"المعرفة الحقيقية تتجه دوماً نحو الحكمة"
حاضرة الفاتيكان، الثلاثاء 03 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي الكلمة التي وجهها بندكتس السادس عشر يوم الجمعة 30 أكتوبر الأخير إلى جماعة تحتفل ضمن مؤتمر يستمر يومين بالسنة العالمية لعلم الفلك التي دعت إليها اليونيسكو في الذكرى المئوية الرابعة لأول استخدام للمقراب على يد غاليليو.
***
أصحاب السيادة،
سيداتي وسادتي،
يسعدني أن أحيي هذه الجمعية المؤلفة من علماء فلك موقرين قدموا إلى الفاتيكان من كل أنحاء العالم للاحتفال بالسنة العالمية لعلم الفلك، وأشكر الكاردينال جيوفاني لايولو على كلمته الافتتاحية الطيبة. هذا الاحتفال الذي يتزامن مع الذكرى المئوية الرابعة لأولى ملاحظات غاليليو غاليلي الفلكية عبر المقراب، يدعونا إلى التفكير في التقدم الهائل المحرز في مجال المعرفة العلمية في العصر الحديث، وإلى توجيه أنظارنا مجدداً نحو السماء بروح من التعجب والتأمل والالتزام بالسعي وراء الحقيقة أينما وجدت.
يتزامن لقاؤكم أيضاً مع افتتاح المرافق الجديدة للمرصد الفاتيكاني في كاستل غاندولفو. إن تاريخ المرصد كما تعلمون مرتبط بصورة غاليليو، والنقاط الجدلية التي أحاطت أبحاثه، وسعي الكنيسة إلى بلوغ فهم العلاقة بين العلم والدين على نحو صحيح ومثمر. أغتنم هذه الفرصة للتعبير عن امتناني ليس فقط للدراسات المتأنية التي أوضحت السياق التاريخي الدقيق لإدانة غاليليو، وإنما أيضاً لجهود كافة الملتزمين بالحوار والتأمل المستمرين حول تكاملية الإيمان والعقل في خدمة فهم شامل للإنسان ومكانته في الكون. إنني ممتن بخاصة لموظفي المرصد ولأصدقاء مؤسسة المرصد الفاتيكاني والمتبرعين لها، على جهودهم الهادفة إلى تعزيز البحوث والفرص التربوية والحوار بين الكنيسة وعالم العلوم.
تهدف السنة العالمية لعلم الفلك بنوع خاص إلى أن يستعيد البشر في عالمنا التعجب والانذهال الاستثنائيين اللذين ميزا عصر الاكتشاف العظيم في القرن السادس عشر. أفكر مثلاً في الجذل الذي شعر به علماء المعهد الروماني الذين قاموا على بعد خطوات قليلة من هنا بالملاحظات والحسابات التي أدت إلى اعتماد التقويم الغريغوري في العالم أجمع. إن عصرنا الحالي الذي يستعد ربما لاكتشافات علمية أعظم وأبعد، سيستفيد من شعور الرهبة عينه والتوق إلى بلوغ خلاصة بشرية حقيقية للمعرفة ألهمت آباء العلم الحديث. ومن يستطيع إنكار أن مسؤولية مستقبل البشرية واحترام الطبيعة والعالم المحيطين بنا يتطلبان – اليوم وفي جميع الأزمنة – عناصر الملاحظة المتأنية، والحكم النقدي، والصبر والانضباط الأساسية في المنهج العلمي الحديث؟ في الوقت عينه، يذكرنا أيضاً كبار العلماء في عصر الاكتشاف أن المعرفة الحقيقية تتجه دوماً نحو الحكمة، وتدعونا إلى رفع أنظارنا إلى العالم الروحي، بدلاً من حد قدرة العقل.
باختصار، لا بد من فهم المعرفة بكل نطاقها المحرر والسعي وراءها. من الممكن تقليصها إلى مجرد حسابات وتجارب. مع ذلك إن صبت إلى أن تكون حكمة قادرة على إرشاد الإنسان على ضوء بداياته وغاياته السامية، فلا بد لها من الالتزام بالسعي وراء الحقيقة السامية التي تعتبر مفتاح سعادتنا وحريتنا الفعليتين (يو 8، 32) – على الرغم من أنها خارج متناولنا –، مقياس إنسانيتنا الحقيقية ومعيار علاقة مستقيمة مع العالم المادي ومع إخوتنا وأخواتنا في العائلة البشرية الكبرى.
أيها الأصدقاء الأعزاء، لقد كشف لنا علم الكونيات الحديث أن لا البشرية ولا الأرض التي نقف عليها تشكل محور الكون المؤلف من مليارات المجرات التي تضم كل منها أعداداً وافرة من النجوم والكواكب. مع ذلك، وفيما نسعى إلى قبول تحدي هذه السنة – رفع أنظارنا إلى السماء من أجل إعادة اكتشاف مكاننا في الكون –، كيف لا تأسرنا الرائعة التي عبر عنها المرنم منذ زمن بعيد؟ خلال تأمل السماء المرصعة بالنجوم، هتف بتعجب إلى الرب: "إني أرى سماواتك عمل أصابعك والقمر والكواكب التي كونتها. ما الإنسان حتى تذكره وابن البشر حتى تفتقده؟" (مز 8: 4، 5). أرجو أن يؤدي التعجب والجذل اللذان سينتجان عن هذه السنة العالمية لعلم الفلك، إلى نطاق يتخطى تأمل روائع الخلق ويبلغ تأمل الخالق والمحبة التي تعتبر دافع الخلق – المحبة التي قال عنها دانتي أليغييري أنها "تحرك الشمس والنجوم الأخرى" (الفردوس 33، 145). يقول لنا الوحي أن الكلمة التي تكوّن بها كل شيء خيمت بيننا في ملء الزمان. في المسيح، آدم الجديد، ندرك محور الكون والتاريخ كله، وفيه هو كلمة الله المتجسدة، نرى مقياس عظمتنا كبشر منحنا العقل ودعينا إلى مصير أبدي.
أيها الأصدقاء الأعزاء، مع هذه التأملات، أحييكم باحترام وتقدير وأعبر عن أطيب التمنيات لبحوثكم وتعليمكم. وأبتهل من الله الكلي القدرة أن يحل بركات الحكمة والفرح والسلام عليكم وعلى عائلاتكم وأحبائكم.
ترجمة وكالة زينيت العالمية
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009