"الجمال أسلوب متميز لفهم سر الله"

حاضرة الفاتيكان، الخميس 19 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي الكلمة التي وجهها البارحة بندكتس السادس عشر خلال المقابلة العامة في قاعة بولس السادس.

***

أيها الإخوة والأخوات الأحباء،

في تعاليم الأسابيع الفائتة، عرضت لكم بعض جوانب اللاهوت القروسطي. إن الإيمان المسيحي المتجذر في رجال ونساء تلك القرون، لم يولد فقط روائع الأدب اللاهوتي، والفكر والإيمان. لكنه ألهم أيضاً إحدى الروائع الفنية السامية للحضارة العالمية: الكاتدرائيات، مجد القرون الوسطى المسيحية. على مر حوالي ثلاثة قرون، وابتداءً من القرن الحادي عشر، شهدت أوروبا حماسة فنية استثنائية. ويصف مؤرخ قديم حماسة تلك الحقبة وعملها على الشكل الآتي: "حدث أن العالم أجمع، منه إيطاليا وبلاد الغال بخاصة، بدأ يشهد إعادة إعمار الكنائس على الرغم من أن العديد منها كان جيداً ولم يكن بحاجة إلى إعادة الترميم. كان الأمر كأن إحدى القرى كانت تتنافس مع الأخرى، وكأن العالم كان يخلع أسماله البالية، ليرتدي حلة الكنائس الجديدة البيضاء في كل مكان. باختصار، عمل المؤمنون على ترميم كل الكنائس الكبيرة، وعدداً كبيراً من كنائس الأديرة، وكابيلات القرى" (رودولفو إل غلابرو، Historiarum، 3، 4).

ساهمت عدة عوامل في نهضة الهندسة المعمارية الدينية. تجدر الإشارة أولاً إلى ظروف تاريخية مؤاتية منها الأمن السياسي المترافق مع النمو السكاني وتطور المدن والتبادلات والثروات. كذلك وجد المهندسون المعماريون المزيد من الحلول التقنية المتقنة لتوسيع حجم المباني، وعملوا على ضمان متانتها وعظمتها. مع ذلك، يعود الفضل أولاً إلى الحماسة الروحية للرهبانية التي دفعت إلى بناء الكنائس في الأديرة حيث يمكن الاحتفال بالليتورجيا بكل وقار وإجلال، وحيث يأتي المؤمنون للصلاة وتكريم ذخائر القديسين في رحلات حج لا تحصى. هكذا نشأت الكنائس والكاتدرائيات الرومانية والمتميزة بتوسعها الطولي على طول صحن الكنيسة لتستقبل العديد من المؤمنين؛ كنائس متينة ذات جدران سميكة وقبب حجرية وخطوط أساسية وبسيطة.

برزت أحد عناصر الجدة في إدخال فن النحت. فيما كانت الكنائس الرومانية المكان لصلاة الرهبان وسجود المؤمنين، اهتم النحاتون أولاً بالغاية التربوية، بدلاً من الانشغال بالكمال التقني. كان من الضروري إيقاظ المشاعر في النفوس لحثها على الابتعاد عن الرذيلة والشر والاقتراب من الفضيلة والصلاح – كان الموضوع المتواتر تصوير المسيح كالديان الأسمى المحاط بشخصيات الوحي. وكانت الواجهات الرومانية تقدم هذه الصورة للتشديد على أن المسيح هو الباب الذي يؤدي إلى السماوات. ومن خلال اجتياز عتبة البناء المقدس، يدخل المؤمنون إلى مكان وزمان مختلفين عن الحياة الطبيعية. وإضافة إلى باب الكنيسة الرئيسي، يستطيع المؤمنون بالمسيح السيد العادل والرحيم – حسبما أمل الفنانون – بالشعور بالسعادة الأبدية في الاحتفال بالليتورجيا وفي أعمال التقوى داخل الصرح المقدس.

في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وانطلاقاً من شمال فرنسا، انتشر نوع هندسي آخر في تشييد المباني المقدسة: الفن القوطي. كان هذا الأسلوب يشتمل على ميزتين جديدتين مقارنة بالفن الروماني: الدفع العمودي والسطوع. أظهرت الكاتدرائيات القوطية عناصر الإيمان والفن المتجسدة بتناغم من خلال لغة الجمال العالمية الرائعة التي ما تزال تثير الدهشة حتى الآن. بفضل إدخال القبب المسننة التي كانت مدعمة بأعمدة متينة، أصبحت زيادة ارتفاع هذه الكنائس ممكنة. شكل الدفع إلى الذروة دعوة للصلاة وكان صلاة آنذاك. هكذا رغبت الكاتدرائية القوطية في ترجمة توق النفوس إلى الله من خلال الخطوط الهندسية. إضافة إلى ذلك، ومع الحلول التقنية الجديدة، تخللت الجدران نوافذ زجاجية ملونة. بمعنى آخر، تحولت النوافذ إلى رموز نيرة عظيمة لتنشئة الشعب في الإيمان. عليها كانت تروى حياة قديس أو مثل أو أحداث بيبلية أخرى. ومن النوافذ الملونة، كان النور يدخل على المؤمنين ليروي لهم تاريخ الخلاص ويشملهم به.

أما الميزة الأخرى للكاتدرائيات القوطية فتتجسد في كونها سمحت من خلال بنائها وزخرفتها، بمشاركة الأسرة المسيحية والمدنية بطريقة مختلفة وإنما منسقة؛ مشاركة الضعفاء والأقوياء، الأميين والمتعلمين لأن كل المؤمنين كانوا يتعلمون الإيمان في هذا البيت المشترك. حولت الهندسة المعمارية القوطية الكاتدرائيات إلى "كتاب مقدس حجري"، ممثلة فصول الإنجيل ومجسدةً محتويات السنة الليتورجية من الميلاد وحتى تمجيد الرب. وفي تلك القرون، انتشر أيضاً إدراك طبيعة الرب البشرية، وتم تصوير معاناته وآلامه بطريقة واقعية: أصبح المسيح المتألم (Christus patiens) صورة محببة لدى الجميع، وقادرة على إلهام التقوى والتوبة عن الخطايا. ولم تغب شخصيات العهد القديم التي أصبحت قصصها مألوفة لدى المؤمنين بحيث كانوا يؤمون الكاتدرائيات كجزء من تاريخ الخلاص المشترك. بوجوهها المتوهجة جمالاً وحنواً وذكاءً، تظهر الهندسة المعمارية القوطية الخاصة بالقرن الثالث عشر تقوى فرحة وهادئة تسعد بأن تنشر عبادة بنوية وقلبية لأم الله التي نراها أحياناً كشابة مبتسمة ومحبة، وكسلطانة السماء والأرض القديرة والرحيمة.

إن المؤمنين الذين كانوا يحتشدون في الكاتدرائيات القوطية، أرادوا أن يجدوا فيها التعابير الفنية التي تذكر بالقديسين ومثل الحياة المسيحية والشفعاء لدى الله. كما أن المظاهر " العلمانية" لم تغب أبداً إذ ظهرت صور للعمل في الحقول والعلوم والفنون. كل شيء كان متجهاً نحو الله ومقدماً له في المكان الذي كان يحتفل به بالليتورجيا. نستطيع أن نفهم بطريقة أفضل المعنى الذي أعطي للكاتدرائية القوطية من خلال النظر إلى الكلام المنقوش على الباب الرئيسي لكاتدرائية القديس دوني في باريس: "أيها المار الذي تريد أن تثني على جمال هذه الأبواب، لا تنبهر بالذهب أو بالفخامة، بل بالعمل المضني. هنا يشع عمل مشهور، ولكن فلتسمح السماوات بأن يقوم هذا العمل الشهير المشع بجعل النفوس تتألق لكيما تسير من خلال الحقائق المشعة نحو النور الحقيقي حيث يعتبر المسيح الباب الحقيقي".

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أود الآن التشديد على عنصرين مفيدين لنا أيضاً في الفن الروماني والقوطي.

العنصر الأول: إن أعمال الفن الناشئ في أوروبا خلال القرون الماضية لا تفهم إن لم تؤخذ بالاعتبار الروح الدينية التي ألهمتها. فقد كتب الفنان مارك شاغال الذي لطالما أظهر التلاقي بين الأمور الجمالية والإيمان "خلال قرون عديدة، غط الرسامون ريشتهم في هذه الأبجدية الملونة المتمثلة في الكتاب المقدس". عندما يحصل اللقاء بين الفن والإيمان المحتفل به بطريقة خاصة في الليتورجيا، ينشأ تناغم عميق لأن الاثنين يريدان تسبيح الله بجعل غير المنظور منظوراً. وأود أن أتحدث عن ذلك في اللقاء مع الفنانين في 21 نوفمبر، مجدداً لهم اقتراح الصداقة بين الروحانية المسيحية والفن، الاقتراح الذي لطالما أراده أسلافي الأحباء، ومنهم بخاصة خادما الله بولس السادس ويوحنا بولس الثاني.

العنصر الثاني: إن قدرة الفن الروماني وروعة الكاتدرائيات القوطية تذكراننا أن درب الجمال هي السبيل المتميز والفاتن لفهم سر الله. فما الجمال الذي يتأمله الكتاب والشعراء والموسيقيون والفنانون ويترجمونه بلغاتهم، إن لم يكن انعكاس روعة الكلمة الأبدية الذي صار جسداً؟ يقول القديس أغسطينوس: "سَلْ جمال الأرض، سَلْ جمال البحر، سَلْ جمال الهواء الطلق. سَلْ جمال السماء، سَلْ نظام النجوم، سَلِ الشمس التي تنير النهار برونقها؛ سَلِ القمر الذي يخفف بنوره ظلام الليل. سَلِ الحيوانات التي تسبح في المياه، وتدب على الأرض، وتطير في السماء: أرواح تختبئ، وأجساد تظهر؛ المنظور الذي يتم إرشاده، وغير المنظور الذي يرشد. سَلها! ستجيبك كلها قائلة: أنظر إلينا، إننا رائعون! إن جمالها هو الذي يعرّف عنها. من خلق هذا الجمال المتبدل إن لم يكن الجمال الثابت الذي لا يتبدل؟" (العظة، 2: 38، 1134).

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فليساعدنا الرب على إعادة اكتشاف درب الجمال كإحدى الدروب الأكثر روعة للتوصل إلى إيجاد محبة الله.

ترجمة وكالة زينيت العالمية

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009