بقلم الأب هاني باخوم

روما، الثلاثاء 24 نوفمبر 2009 (Zenit.org) –الرّبّ يؤكّد لابراهيم، كما رأينا في المرّة السّابقة، إنّ من سيرثه هو ابنه من نسله وليس خادمه اليعازر الدّمشقي. الرّبّ يطمئنه ان نسله سيكون اكبر من ان يحصى (تك 15: 4 ـ 6). وابراهيم يؤمن بذلك ويقول للرّب: "بماذا أعلم انّي أرثها؟" اي ما هي العلامة انّي سأرثها؟ كلّ المعطيات والوقائع تدفعني كي لا اصدق. لكني اؤمن بما تقول (تك 15: 6)، نعم ابراهيم آمن ولكنّه يريد علامة، تذكّره بوعد الرّبّ دائماً. كي لا يسقط بعد ذلك عند مرور هذه اللّحظات القوية، عندما يعود إلى حياته وصعوباته فينسى ما وعده به الرّبّ، وينطفىء ايمانه. لذا يسأل الرّبّ ان يعطيه علامة تستطيع ان تُعْلِمه وتذكّره بالوعد في وقت الضّيق. فسؤال ابراهيم لا يخصّ الوقت الحالي، بل المستقبل: "بماذا أعلم انّي ارثها؟" والرّبّ يعطي علامة لابراهيم، بل واكثر من علامة، الرّبّ يقيم رتبة رسميّة مع ابراهيم، قد نسميها في وقتنا الحالي تعاقداً. كيف؟

يطلب الرّبّ من ابراهيم ان يأخذ بعض المحرقات (حيوانات للذّبيحة) ويشطرها انصافاً (تك 15: 9 – 10). وعندما غابت الشّمس وخيم الظّلام، اذا بنارٍ تسير وسط تلك المحرقات وتلتهمها (تك 15: 17).

هكذا كان يتم التّعاقد بين شخصين لإتمام فعل ما. يشطران الذّبيحة ويمرّان في وسطها، وكلّ منهما يأكل قسماً ويقسم انّه ان لم يفِ بما وعد به، فليلحق به ما يلحق الآن بهذه الذّبيحة، ليُشطَرَ ويُلتهَم (ارميا 34: 18).

 هكذا يقطع الرّبّ العهد مع ابراهيم، لكن باختلافٍ واحدٍ، وهو ان الرّبّ وحده الذي يمرّ من خلال مشعل النّار ويلتهم الذّبيحة، ولا يدع ابراهيم يمرّ معه. وبهذا يفهم ابراهيم ان الوعد، وعد الله، هو الذي سيتمّمه و ليس عليه ان يفعل شيئاً بنفسه وبقوته. ما عليه الا الاستمرار بإيمانه، وثقته بذلك الاله الذي اخرجه من ارض أور. ويذكُر ان الله اقسم انّه هو الذي سيتمّم الوعد لا قواه الشّخصية، وانّه لم يمرّ ولم يأكل حصته من الذّبيحة، بل عليه فقط ان ينتظر ويثق من جديد.

كم هو رائع هذا الشّيء، الله يعد ويقسم بنفسه انّه هو من سيحقق الوعد دون ان يطلب من الانسان الا الايمان والثّقة به وبكلمته. نعم هذا رائع!! ولكنّه صعب. فمن السّهل على الانسان ان يفعل شيئاً، كي يشعر انّه يستحق ما وعده به الله. ان يقوم بعملٍ ما، ليكون له الحق بأن يستفسر ويسأل: الى اين وصلنا في تحقيق الوعد؟ ان يفعل شيئاً بيديه كي يراه يكبر، وما يفعله يعطيه الثّقةً بأن الوعد سيتحقق. نعم، جميل ان لا يقدم الانسان على فعل شيءٍ، ان يؤمن فقط ، ولكنّه صعب. صعب عليه ان ينتظر ويتأمّل ما يفعله آخر من اجله بدلاً عنه. وبالأخص ان كان هذا الآخر هو الله، اللامرئي، وهو لا يستطيع محاكمته ان لم يفِ بوعده. انه اقوى وابعد من ان يُربط او يُجبر. فأن لا يأكل الانسان نصيبه من الذّبيحة والمحرقة اصعب بكثير، ويحتاج لجهد اكبر من ان يمرّ ايضاً مع الله ويأكل نصيبه. فمن الصّعب على الانسان بعد الخطيئة، ان يثق بالله كليّاً ويختبر ما يسمى بالمجانية. من الأسهل ان يدفع ثمن الوعد. لكن ابراهيم آمن، ولهذا حسب له ذلك برّا، لانّه من غير الطّبيعي ان يؤمن ويقبل ان لا يفعل شيئاً.

ابراهيم صورة ليسوع الذي آمن هو ايضاً على عكس كلّ رجاء، واسلم ذاته كاملاً لأيدي البشر، واثقاً في وعد الرّبّ بأنّه لن يترك عبده يرى الفساد، ولن يتركه للابد في القبر بل سيقيمه من بين الاموات، وبالفعل هكذا تمّ.

لذا دعي ابراهيم اب المؤمنين، اي اباً لكل من يؤمن. لكنّ قصة ابراهيم لا تنتهي هنا وايمانه لم يصل للقامة التي حدّدت له بعد، هناك اكثر من هذا الايمان. الايمان طريق لا ينتهي الا عند الموت ورؤية مجد الله في السّماء. ابراهيم عليه ان يفهم انّه مازال في البداية والطّريق صعب، والايمان يجب ان ينمو وينقّى....وكيف يتمّ ذلك؟ بالتّجارب والمحن. الآن، ابراهيم امام تجربة جديدة، تجربة اصعب مما سبق لأنّ مصدرها "من هي لحم من لحمه"، جسده نفسه، مصدرها  زوجته. ماذا قالت له؟ وماذا فعل ابراهيم؟ امام هذه التّجربة، هل سيصرخ ويطلب من الرّبّ الا يتركه؟ هل سيتذكّر تلك الصّرخة الاساسية لنجدته: الهي الهي لماذا تركتني؟ ام سيعتمد على نفسه وعلى من حوله وآرائهم؟ تلك الصّرخة والتي هي طلب عون وقت الضيق، وقت المحن، وقت التّجارب....

للمرة القادمة.