بقلم الأب هاني باخوم

روما، الخميس 12 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – تحدث مجاعة في الارض التي حصل عليها ابراهيم. فيقرر ان ينزل الى مصر، التي تمثل في الكتاب المقدس، كما ذكرنا سابقاً، الضيق. ما يشعر به الانسان عندما يختنق ويوشك على الموت. عندما يقترب ابراهيم من ذلك الضيق، من مصر، يقول لامراته ساراي: "أنا اعلم انك امراة جميلة المنظر، فيكون، اذا رآك المصريون، انهم يقولون: هذه امراته، فيقتلونني ويبقونك على قيد الحياة. فقولي انك اختي، حتى يُحسن الي بسببك وتحيا نفسي بفضلك."(تك 12: 11ـ 13)

هذا ما قاله ابراهيم لانه خائف من اهل مصر. هو يعرف انهم سيأخذون امراته لانها جميلة، وان علموا بانه زوجها، سيقومون بقتله. لكنهم سيكرّمونه ان قالت بأنها اخته. سيأخذونها ويكرمونه. ابراهيم يقبل ان يضحي بامراته كي يحيا هو ويُكرم. يقبل ان يأخذ اهل مصر زوجته. هذا غير مهم، المهم ان يحافظ هو على حياته. وبتضحيته بأمراته يضحي ايضاً بالوعد، ينساه تماماً. ان ترك سارة، فممن سيكون النسل؟ كيف سيتحقق وعد الله؟ امام الخوف لا يذكر ابراهيم هذا كله: الزوجة، النسل والوعد. لا مكان لكل هذا الان، بل المهم ان يحافظ على حياته.

من علمك هذا يا ابراهيم؟ من علمك ان تضحي بالآخر من اجل حياتك؟ من نقل لك هذا الفكر؟ ابوك الاول؟ نعم، هكذا فعل ادم ايضاً. عندما قال له الله هل اكلت من الشجرة التي امرتك الا تأكل منها؟ اجابه: المراة التي جعلتها معي هي اعطتني من الشجرة فأكلت (تك 3: 11ـ 12). آدم يقول لله، انا لست مذنباً، اذا اردت ان تعاقب احداً، فالمراة هي التي اعطتني من الشجرة وانا بكل بساطة اكلت، لكنني لم افعل شيئاً. انا لم اعصك، هي، نعم. هي التي اخذت من الشجرة. انا فقط اكلت. في الواقع، ادم يقول لله انا لم اطلب المرأة التي اعطيتني اياها. انا لم اطلبها. تذكر يا الله، انت من اعطاني اياها. آدم يتبرى من فعله ليحمي نفسه، ويضع حواء في المقدمة، ويذكر الله انه هو من خلقها. هكذا فعل ادم بسبب الخوف، الخوف من الموت. نفس الخوف يجعل ابراهيم مثل ادم، يدافع عن نفسه ويضحي بغيره. ابراهيم رمز للانسان الذي اخذ على عاتقه ان يخلص نفسه، فيجد نفسه عاجزاً وليس بيده حيلة الا ان يسلم الاخر.

هكذا فعل ابراهيم كي ينقذ نفسه. كما يفعل كل انسان ليحمي نفسه: يضحي بالاخر. الانسان يجد انه لا يملك الحياة، وان حياته في خطر. ماذا يفعل؟ يضحي بغيره كي يحافظ على حياته. عندما يواجه شخصاً يذله، يسبب له الالم او لا يسمح له بتحقيق مشروعه وافكاره، يشعر بالموت والضيق. يشعر بانه قريب من مصر، فيدافع عن نفسه: يهاجم الاخر. يحاول محوه من الوجود، إما بوضع الذنب عليه (أدم)،او بقتله (قايين)، او بالتضحية به: فليذهب هو عوضاً عني (ابراهيم)، اوحتى بأية طريقة اخرى، المهم ان لا تكون له كلمة او وجود......

هكذا فعل ابراهيم. نسي الوعد، نسي اله ابيه الذي بنى له المذبح: هناك خطر الآن، سأتدبر امري بنفسي. ابراهيم لم يترك افكاره وبرجه بعد. ابراهيم لم يتعلم حتى الان، انه في وقت الضيق يجب ان يترك ارضه وعشيرته وبيت ابيه، ويصرخ الى الله كي ينقذه. ابراهيم في وقت الضيق يتمسك بممتلكاته وافكاره وحكمته ولا يذكر الرب.

بالفعل ينجح ابراهيم في انقاذ حياته. يأخذ فرعون امراته الى بيته!!! ويعطيه الكثير من الحمير والبهائم والخدم (تك 12: 16). ابراهيم يترك الوعد وينساه. حتى وان أُنقذ من الموت الجسدي، فقد رجع لموته الاعمق. حياة وافرة، لكن بلا مستقبل وبلا معنى. ابراهيم ينجح في الهروب من الموت، لكنه يجد نفسه في موت اعمق.

ماذا سيفعل الرب؟ هل سيترك وعده للنسيان؟ هل سيرذل ابراهيم ويعاقبه؟ لا. الرب يعلم ان الايمان هو طريق. وابراهيم في بداية هذا الطريق. الايمان هو شجرة وابراهيم الان يملك فقط بذرتها وعليه ان ينميها من حب الله ومغفرته المستمرة. هذا ما يفعله الله، لا يحكم على ابراهيم بالخيانة او الكفر. بل يروي بذرة ايمانه لكي تثمر اكثر. يرحمه. وبالرحمة يكبر الايمان وينمو. يظهر الرب ويعاقب فرعون وبيته. ويفهم فرعون ان كل هذا بسبب ساراي امراة ابراهيم. فيستدعي ابراهيم ويوبخه على كذبه ويجعله يمضي مع ساراي ويعطيه كل ما كان معه ولا ياخذ منه شيئاً.

من وبخ ابراهيم هو فرعون وليس الله. من وبخه هو نفس الشخص الذي تنازل له عن امراته، وبسببه ترك الوعد. من حاكمه على كذبه و نسيانه للوعد ليس الله. لكن من لاجله كذب ابراهيم ونسيَ الوعد. فرعون سبب الخوف، هو الذي يحاسب ابراهيم على خوفه. وكانه يقول له لماذا خفت مني؟ لماذا لم تخبرني؟ الست انت حليف الله؟ لماذا لم تخبرني اذاً؟لا سلطان لي عليك. ماذا صنعت بي؟ يقول فرعون. جعلتني اخطأ امام الهك. كم هو عميق كلام فرعون. خوف ابراهيم وكذبه يجعل من لا يعرف الله يقع في الخطيئة. اي عندما ينسى ابراهيم رسالته ووعد الله له، يجعل فرعون في حالة الخطيئة، علامة لكل الامم. ابراهيم الذي دعي ليكون بركة للشعوب، عندما ترك الرب، اصبح سبب ضربة ولعنة لفرعون.

ابراهيم يختبر ويتعرف من كل هذا على رحمة الله: الله لم يعاقبه بل انقذه. نعم انقذه من نفسه ومن مخططاته البشرية. انقذه من خطيئته وتحايله وكذبه. انقذه ايضاً من الضيق، من فرعون، من مصر. ويتعرف ايضاً على معنى دعوته: ان يكون بركة للشعوب. اي بحسب مقياس امانته للرب، ستتبارك الشعوب التي لا تعرف الرب. وبحسب مقياس نكرانه له ستقع تلك الشعوب وسط الضربات واللعنات. دعوة ابراهيم ليست من اجله فقط. هي مخطط لخلاص كثيرين. مخطط لبركة امم وشعوب. ابراهيم يجب ان يُظهر في وسط الضيق، انه يثق بالله وليس بافكاره ومخططاته. يجب ان يظهر ان الله هو الوحيد الذي سيدبر. هذه هي دعوة ابراهيم. ان يعلن ان الله قادر ان ينقذ البشر من الطوفان، من الضيق، من مصر. الله المنقذ وليس البرج. ابراهيم سيتعلم ذلك. كل احداث حياة ابراهيم ستكون صراعًا: الى من سيلجأ ؟ الى الله او الى افكاره ومخططاته؟....هذا ما سنراه في المرة القادمة.