بعد الطوفان
بقلم الأب هاني باخوم
روما، الثلاثاء 3 نوفمبر 2009 (Zenit.org). – “الهي الهي لماذا تركتني؟” استمعنا لهذه الصّرخة، صرخة يسوع المسيح، من نسل آدم وحواء. هذا النسل الذي بدأ يدعو بأسم الرب, بعد قتل قايين لهابيل. ونسمعها من كلّ انسان يتألّم. من كل انسان يرى الموت. يرى موته او موت عزيز لديه، وضع فيه رجاءه . يرى موته ولا يعرف لماذا يجب ان يموت. يموت بدون سبب او هدف، كموت هابيل. يموت لان آخر قرر ذلك. إن كان هذا الآخر قايين او الله فالامر سيّان، لان الشخص يموت. فلا يجد امامه الا ان يصرخ تلك الصرخة، داعياً باسم الرب.
استمعنا لها من نوح ونسله الذي خُلص من الطوفان. ونستمر في سماعها من كلّ انسان يرى مياه الطوفان تعلو من حوله. تحيط به وتوشك ان تغمره. شره او شر مَن حوله يغرقه. ذنبه او ذنب من وضع فيه رجاءه يغمره. فلا يجد امامه الا ان يصرخ تلك الصرخة، ناظراً لقوسٍ في السماء، راجياً في سفينة، كسفينة نوح، لتنقذه.
“الهي الهي لماذا تركتني؟” نستمر بسماعها مع باقي شخصيات الكتاب، حتّى لا نتشكك من صرختنا عندما يأتي الوقت، ونعبر عنها.
بعد الطوفان يزداد نسل ادم وينمو، وينمو معه واقع الموت والخطيئة. يتمرد البشر راجين ان يخلصوا انفسهم بنفسهم، يجسدون خطيئة ابيهم وامهم، خطيئة ادم وحواء. الان، فقط الان يعبر البشر عما صنعه اجدادهم: يبنون برج بابل، ليستقلوا عن الله. ادم وحواء رغبا ان يكونا آلهة ذواتهما, والان، احفادهما يصنعون من ذواتهم آلهة. كيف؟ اذا جاء الطوفان مجدداً، وصارت الاحداث عكس ما يرغب الانسان، اذا وجد امامه ما يعيقه ويحطمه فلا توجد اية مشكلة. ها هو البرج، صُنع يديه، يهرب اليه، ويحتمي فيه. أي ان الانسان آمن ان خلاصه يأتي مما يصنعه هو بيديه، وليس عليه من بعد ان يدعو الرب وينظر الى القوس في السماء. الانسان مع برج بابل اخذ مكان الله، ترك الخلاص الموعود به وقرر ان يخلص نفسه بنفسه. بنى لنفسه برجاً كي يهرب اليه وقت الحاجة، وبفعله هذا خاطر بعدم رؤية الخلاص ابداً. لكن الله بحبه لا يقبل ان يدمر الانسان نفسه. الله يستمر بالحفاظ على وعده، فينزل من سمائه ويشتت بني البشر ويبلبل السنتهم فلا يستطيعون بناء البرج، لا يستطيعون بناء مقبرتهم الابدية.
لكن لا يكفي ان يشتت الله البشر كي يقنعهم انه هو صانع الخلاص، والمخلص من الطوفان. لا، لا هذا لا يكفي. يختار الله من نسل البشر انسانا ويبدأ معه قصة خلاص، علامة للبشر. يختار ابراهيم.
ـ ابراهيم من عمق الطوفان
يدعو الله ابراهيم من وسط الطوفان. ابراهيم شخص محاط بطوفان الموت من كل جانب، مغمور به حتى العمق. ابراهيم ابن تارح. تارح انجب ثلاثة اولاد: ابرام وناحور وهاران (تك 11: 28). ويذكر الكتاب ان هاران مات قبل ابيه، في مسقط راسه بأور الكلدانيين. اي ان ابراهيم رأى موت اخيه الاصغر امامه. كم هي قاسية تلك الخبرة، بالاخص لتارح ابيه. أب يرى موت ابنه. من المعتاد ان يرى الابن موت ابيه ويتسلم منه الوصية والبركة. هنا العكس، يموت هاران. يدخل الموت باكراً بيت ابراهيم. اخ مات. وهو متزوج من سارة العاقر. ابراهيم لا يرى فقط موت اخيه بل يرى موته هو بالذات. هو لا ينجب اولادا، لذلك لا يرى مستقبلاً، بل يرى نفسه يكبر في السن، ولا يوجد من يحمل اسمه من بعده ويكمل نسله. لمن سينقل بركته ومن سيقوم بدفنه؟ احد خدامه؟ اوابن من ابناء اخيه؟ لكن هذ الأخير سيكمل حياة اخيه لا حياته. ابراهيم يرى الموت يحيطه من كل ناحية ولا يستطيع ان يفعل شيئاً. ماذا يستطيع ان يفعل امام موت اخيه وعقم زوجته؟ ماذا يستطيع ان يفعل؟ لا شيء. هذا واقع ابراهيم. طوفان يغمر حياته من كل ناحية.
وهنا يقرر تارح الهجرة الى حاران في أرض كنعان (تك 11: 31) آخذاً معه ابراهيم ولوط ابن هاران مع زوجتيهما. هجرة معتادة في ذلك الوقت بحثاً عن المراعي والامطار. هجرة لفترة وبعدها يرجع الجميع لارضه. ومن المحتمل ايضاً ان تكون هذه الهجرة صرخة. ضاقت بهم الارض هناك ولم يروا فيها الا الموت. موت الابن هاران، وموت نسل ابراهيم قبل ان يولد. لذا قرروا الهروب!! هروب، كهروب كثيرين يحاولون الفرار من موت او من الم ما بالهجرة، بتغيير المكان اوالاشخاص.
يصل الجميع الى حاران. لكن واقع ابراهيم لا يتغير. تمر الايام ويصبح غنيّاً لديه ثروة كبيرة. لكن واقع موته لا يتغير، بل يزداد. يموت والده ايضاً. هروبه وهجرته لم يغيرا من الامر شيئاً. هو يحمل موته معه. فالهجرة لا تغير قلب الانسان المجروح. قد تزيده مالاً، وتعطيه ارضاً، لكن لا تغير شيئاً من واقعه الحقيقي وسبب المه. فيبقى الانسان خائب الامل، ويبدأ بالبحث عن سبيل آخر للهروب. الى ارض جديدة او شيء جديد.
وسط هذا الموت يظهر الرب لابراهيم ويقول له: “إنطلق من ارضك وعشيرتك وبيت ابيك إلى الارض التي اريك. وأنا اجعلك امة كبيرة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة” (تك 12: 1). كلمات وعد غريبة، تماماً بعكس ما هو عليه واقعه الحالي. ابراهيم يرى ان هجرته الاولى لم تعطه شيئاً، لكن الآن، الرب هو الذي يأمره ان يهاجر. وكأنه مرسل. لا ليس وكأنه! فهو بالفعل مرسل من الرب كبركة لشعوب كثيرة.
نعم، الرب يظهر له ويدعوه الى عدم الاستقرار بل الاستمرار في السير. الى اين؟ لا يعلم.”الى الارض التي أريك اياها”، يقول الرب. ابراهيم قَبل الرحيل لا يعلم الى اين يجب ان يذهب. يذهب وراء وعد وكلمة. لكن هناك شرطاً اساسياً لكي يستطيع ان يتبع الرب، ويعرف اين ستكون الارض
الجديدة: عليه ان ينطلق، ان يترك ارضه وعشيرته وبيت ابيه.
نعم، على ابراهيم ان يترك الارض التي يعرف مكانها، من اجل ارض، لا يعرف الا الله وحده اين هي. الارض هي الضمان، ضمان للعجز: عندما يصبح عاجزاً عن السير، ليسكنها ويدفن فيها. عليه ان يتركها، ويترك ايضاً عشيرته. العشيرة هي القوة والامان، بها يحتمي، ومعها يستقر. ابراهيم عليه ان يتخلى عن قوته، عن عشيرته. ان يترك بيت ابيه، حيث كَبُر وتكوّن. هذا البيت هو كل ماضيه وجذوره. منه استقى كيف يجب ان يكون مستقبله وكيف يحققه. بيت الاب الذي كوّن فيه مشروع حياته. عليه ان يثق بالرب اكثر من كل هذا. يجب ان يترك ضماناته وقوته وفكره كي يستطيع ان يرى الأرض الجديدة.
والوعد ليس فقط بأرض جديدة، بل ان يجعل منه امة كبيرة، نسلاً كبيراً. من رجل كبير في السن، وامراة عاقر؟؟ نعم، يبدو ذلك مستحيلاً. لكن الرب يأخذ على عاتقه هذا الامر. غريب هذا الوعد. من عقم يُعِد الرب حياةً. من وسط طوفان الموت يَعِد بحياة لا تنتهي ابداً. كيف يحقق كل هذا؟ ماذا يجب على ابراهيم ان يعمل؟ أن يترك كل ما ذكرناه. ان يترك نفسه تماماً بين يدي الرب…. نعم عليه ان يقرر اما ان يثق تماماً بالرب، او ان يستمر في بناء البرج، كما فعل اجداده.
وابراهيم لا يرد بأية كلمة. بل ينطلق كما قال له الرب (تك 12: 4). في الطريق، عندما يصل ابراهيم الى أرض شكيم في ارض كنعان، يظهر له الرب من جديد ويقول له: “لنسلك اعطي هذه الارض” (تك 12: 7). الرب يجدد الوعد. اولاً يُظهر لابراهيم الارض التي سيعطيه اياها. ثم يؤكد له استمرار نسله. الوعد بدأ يتحقق، الرب اظهر الارض، ويبقى النسل…
ويرد ابراهيم هذه المرة بطريقة مختلفة: يبني مذبحاً للرب. لاول مرة في الكتاب المقدس يظهر المذبح (تك 12: 7). والمذبح هو المكان حيث تقدم فيه ذبيحة للاله، تقدمة له. هو المكان الذي يعطي فيه الانسان شيئاً من عنده للاله. لماذا يبني ابراهيم مذبحاً؟ الرب لم يطلب منه ذلك. هل شعر ان عليه ان يعطي شيئاً للرب، بعد ان اظهر له الارض؟ كما يفعل عبدة الاوثان الذين اعتاد رؤيتهم في أور؟ هل شعر ان عليه ان يقدم شيئا كي يكمل الرب عهده ووعده؟ هل بدأ بالوقوع في تجربة، ان عليه ان يشارك بشيء ما، في تتميم وعد الله؟ طبعاً عليه ذلك، لقد قال له ماذا يجب ان يفعل: ان يترك ارضه وعشيرته وبيت ابيه. اي ان الله طلب منه ان يكون مجرداً مما صنعه لنفسه، ويطيعه ويسير وراءه. هذا ما يجب ان يفعله ابراهيم. فلماذا المذبح اذاً؟ هل اخطأ ابراهيم في بنائه؟ الكتاب لا يعطي حكماً على فعل ابراهيم، سواء كان صواباً ام خطأ. لايهم ابداً ان كان قد اخطأ او احسن، فالله ليس براصد لافعال البشر ليحكم على الصح والخطأ. هناك ما هو اعمق. ابراهيم فعل ما امره الرب ووجد الارض. هنا كان من الممكن ان تنتهي القصة، بعد تسعة اشهر تلد سارة وتأتي بالنسل. لم لا. فالرب امين وقد اعطى الارض، من المؤكد انه سيعطي الابن بعد تسعة اشهر. سنة على ابعد تقدير. ابراهيم ممتن للرب، يبني المذبح ويدعو باسم الرب.
لكن شيئاً ما يحدث. الامور ليست بهذه السهولة. فترك الارض والعشيرة وبيت الاب ليس لمرة واحدة فقط ، هو قرار يجب ان يتعلم ابراهيم اتخاذه كل يوم. عليه ان ينطلق كل يوم. سيأتي الوقت الذي يطلب منه الرب بناء مذبح بل وتقدمة احب ما لنفسه عليه. لكن ليس الان. الان عليه ان ينطلق. ان يترك. وهذا ما سيعلمه الرب لابراهيم: ان ينطلق يومياً.
تحدث مجاعة في ارض كنعان وينزل ابراهيم الى مصر. مصر وتعني بالعبرية الضيق، تعني ما يشعر به الانسان عندما يختنق ويوشك على الموت. بالفعل يشعر ابراهيم بالاختناق في ارض مصر، بالخوف. لماذا؟ وماذا سيفعل؟ هل سيثق بالرب الذي بنى له الكثير من المذابح؟ هل سيترك فكره وينطلق منها كما امره الرب في البداية ويعتمد فقط على وعد الله؟ هل سيصرخ للرب ويقول: الهي الهي لماذا تركتني؟ ام سيعتمد على ذاته وبرجه؟….للمرة القادمة.