المحبة تنتمي إلى طبيعة الكنيسة
حاضرة الفاتيكان، الاثنين 16 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر، لدى استقباله المشاركين في الجمعية العامة للمجلس الحبري “قلب واحد”.
***
نيافة الكرادلة،
إخوتي الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،
إخوتي وأخواتي الأحباء،
يسعدني أن أحييكم أنتم أعضاء المجلس الحبري “قلب واحد”، والمستشارون والمسؤولون فيه المجتمعون هنا بمناسبة انعقاد الجمعية العامة التي يطرح خلالها موضوع “مسارات تكوينية لفاعلي الخير”. أحيي الكاردينال بول جوزيف كوردس، رئيس المديرية، وأشكره على الكلمات الطيبة التي وجهها لي باسمكم. كذلك أعبر للجميع عن امتناني للخدمة الثمينة التي تقدمونها للنشاط الخيري الخاص بالكنيسة. أفكر بخاصة بالمؤمنين الذين يمنحون الوقت والطاقة بسخاء وتفانٍ في كل أنحاء العالم للشهادة لمحبة المسيح السامري الصالح الذي ينحني على المحتاجين جسدياً وروحياً. وبما أن “طبيعة الكنيسة تتجسد في مهمة ثلاثية: إعلان كلمة الله (kerygma-martyria)، والاحتفال بالأسرار (leiturgia)، وخدمة المحبة (diakonia)، حسبما أشرت في رسالة “الله محبة”، فإن المحبة تنتمي إلى طبيعة الكنيسة.
من خلال العمل في هذا المجال من الحياة الكنسية، تقومون بمهمة تندرج بين محورين: إعلان الإنجيل والاهتمام بقلب الإنسان وبالبيئة التي يعيش فيها. وخلال هذه السنة، ساهم حدثان كنسيان في تسليط الضوء على هذا الجانب: نشر الرسالة العامة “المحبة في الحقيقة”، وانعقاد الجمعية العامة الخاصة بإفريقيا في سينودس الأساقفة حول المصالحة والعدالة والسلام. في منظورين مختلفين وإنما متقاربين، أظهر هذان الحدثان أن الكنيسة لا تستطيع بإعلانها الخلاصي تجنب ظروف البشر الحياتية التي أرسلت من أجلها. فالعمل على تحسينها متعلق بحياتها ورسالتها لأن خلاص المسيح شامل يعني الإنسان بكل أبعاده الجسدية والروحية والثقافية والأرضية والسماوية. من هنا نشأت على مر القرون عدة أعمال وبنى كنسية تهدف إلى تنمية الأفراد والشعوب، وتسهم بشكل أساسي في تنمية الإنسان وتقدمه المتناسق والشامل. وكما جددت التأكيد في رسالة “المحبة في الحقيقة”، فإن “الشهادة لمحبة المسيح من خلال أعمال العدالة والسلام والتطور تشكل جزءاً من التبشير بالإنجيل لأن يسوع المسيح الذي يحبنا يعتبر أن الإنسان مهم بكل جوانبه” (رقم 15).
من هنا، لا بد من الأخذ بالاعتبار التزام الكنيسة بتطور مجتمع أكثر عدالة يعترف بكافة حقوق الأفراد والشعوب ويحترمها (المرجع عينه، 6). في هذا الصدد، يقوم العديد من المؤمنين العلمانيين بتنفيذ أعمال مفيدة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والثقافية لخدمة الخير العام. إنهم يشهدون للإنجيل مسهمين في بناء نظام عادل في المجتمع ومشاركين في الحياة العامة (الله محبة، 28). لا يتوجب على الكنيسة التدخل مباشرة في سياسة الدول أو في بناء هيكليات سياسية مناسبة (راجع رقم 9). بإعلان الإنجيل، تفتح الكنيسة قلب الإنسان على الله وعلى الآخر، وتوقظ الضمائر. وبقوة إعلانها تدافع عن حقوق الإنسان وتلتزم بالعدالة. إن الإيمان قوة روحية تنقي العقل في السعي وراء نظام عادل وتحرره من خطر “الافتتان” بالأنانية، أو المصلحة أو السلطة. وكما تظهر التجربة في المجتمعات الأكثر تطوراً أيضاً من وجهة النظر الاجتماعية، فإن المحبة ما تزال ضرورية: فخدمة المحبة لا تعتبر ثانوية أبداً ليس فقط لأن النفس البشرية تحتاج دوماً إلى المحبة بالإضافة إلى الأمور المادية، وإنما أيضاً لأن حالات المعاناة والوحدة والعوز القائمة تتطلب تفانياً شخصياً ومساعدات ملموسة. عند الاهتمام بالإنسان بمحبة، تشعر الكنيسة بوفرة المحبة التي يحدثها الروح القدس، والتي توفر الراحة والدعم للنفس محررة إياها من الشرور التي تصيبها، فيما تساعد الإنسان على التحرر من الضغوطات المادية. إن مصدر هذه المحبة هو الله عينه، الرحمة اللامتناهية والمحبة الأبدية. لذلك، من يقدم خدماته ضمن المؤسسات الكنسية التي تعنى بإدارة مبادرات وأعمال خيرية، لا يسعه إلا وضع الهدف الرئيسي التالي نصب عينيه: نشر معرفة وجه الآب السماوي الرحيم، لأن الاستجابة الفعلية لآمال كل قلب بشري تتم في قلب الله المحبة.
كم من الضروري أن تبقى نظرة المسيحيين ثابتة نحو وجه المسيح! فيه وحده الإله والإنسان، نستطيع رؤية الآب (يو 14، 9) واختبار رحمته اللامتناهية! يعلم المسيحيون أنهم مدعوون إلى خدمة العالم ومحبته من غير أن يكونوا “من أهل العالم” (يو 15، 19)؛ وإلى حمل كلمة خلاص شامل للإنسان الذي لا يستطيع الانعزال في أفق أرضية؛ وإلى البقاء أمناء – كالمسيح – لمشيئة الآب حتى بذل النفس، لإدراك الحاجة إلى المحبة الحقيقية في كل قلب بشري. هذه هي الدرب التي يجب أن يتبعها كل من يريد الشهادة لمحبة المسيح واتباع منطق الإنجيل.
أيها الأحباء، من المهم أن تعمل الكنيسة الحاضرة على مر التاريخ وفي حياة البشر على نشر محبة الله ورأفته. هكذا تكون في خدمتكم وخدمة العاملين في المجال الواسع الذي يعنى به مجلسكم الحبري! مع هذه التمنيات، أبتهل شفاعة مريم الوالدية لكم ولأعمالكم، وإذ أجدد شكري لحضوركم وللعمل الذي تقومون به، أمنحكم وعائلاتكم بركتي الرسولية!
ترجمة وكالة زينيت العالمية
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009