بقلم الأب هاني باخوم
روما، الخميس 19 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – يرجع ابراهيم من ارض مصر، ويفترق عن ابن اخيه لوط. يفترق عمن بقي له من اهله وبيت ابيه. احداث كثيرة تمر وابراهيم كما هو. لا جديد. ينتصر في الحروب، يغتني، ولكنه في نفس الوقت، يكبر في السن اكثر فاكثر. يشيخ، ويرى امراته ساراي تشيخ ايضاً، ولا ذكر للوعد، للابن، للنسل. فلم المال ولم الانتصارات؟ بالاحرى لمن كل هذا المال ولمن كل هذه الانتصارات؟
وسط كل هذا يرجع الرّبّ ويقول لابراهيم:” لا تخف يا ابرام، انا ترس لك، واجرك عظيم جداً” (تك 15: 1). الرب يعرف اعماق ابراهيم، وما هي مشكلته؛ الخوف. نعم ابراهيم يخاف. يخاف المجهول، يخاف من لا سلطة له عليه، في العمق يخاف الموت الذي يتقدم ولا يجد من يمنعه. فيقول له الرب: لا تخف. انا ترسك. انا من سيبعد عنك الضربات، من سيحميك من اسهمة المجهول، من ارمحة من تخشاه. واجرك سيكون كبيراً وعظيماً.
اجري عظيم!! بم يفيد؟ “ايها الرب، ماذا تعطيني؟ اني منصرف عقيماً، وقيم بيتي هو اليعازر الدمشقي” (تك 15: 2). هكذا يرد ابراهيم. اجر!! اي اجر؟ اموال، بركات، بم يفيدني كل هذا؟ ما معنى ان اغتني وانا اعلم بأنني سأموت، وكل هذا سيرجع لخادمي من بعدي. ان ارتاح اليوم وانا اعلم ان الغد اتٍ ومعه الموت، ويحمل ما اقف عاجزاً امامه. اية راحة هذه؟
ابراهيم يعبر عن عمق مأساة الانسان. الانسان يدرك انه عاجز امام المستقبل وما يحتويه. يخاف من المجهول. في العمق يخاف الموت. الانسان يختبر امام الموت، بأنّه انسان فعلاً. لا يستطيع هو، او ما يملكه القيام بأي شيء. امام الموت، الانسان يرى ان كلّ شيء نسبيّ، ولا شيء مهم. ان كانت حياتي ستنتهي هكذا في احد الايام ، بم يفيد ما افعله اليوم من خير او شر؟ بم يفيد ما املكه وما اكتسبته من علم وخبرة ؟ ان افرح او احزن، تتساوى الامور، فالنهاية واحدة، هي قريبة حتى وان بعدت، وهي الموت! ماذا يفيدني ان اتمتع او امتنع عن المتعة، ان كان ما ينتظرني في النهاية هو شيء واحد: الموت. هذه ليست كلماتي، او ثمرة احباط قد يمر به الانسان، او عدم ايمان. بل ما يدور في اعماق الانسان، حتى وان لم يكن يدركه. هذا ما يجعل الانسان يتّخذ قراراتٍ في حياته دون ان يعرف لماذا قرّر شيئاً دون سواه. بماذا يفيد كلّ هذا ان كانت النهاية هي الموت؟ الانسان في عمقه يطرح هذا السؤال على ذاته وان لم يعي ذلك. هذا ما يقوله الكتاب المقدس في سفر الجامعة(سفر من اسفار الحكمة)؛ لم كلّ شيء في الحياة ان كان هناك الموت؟
الانسان يردّ على هذا السؤال بطريقة عملية وليس بالكلمات. فيبدأ بتحصين نفسه، وبناء ترس ليحميه مما ينتظره. يبنيه بالاموال، بالعلاقات، بالعواطف، بالعلم… . او يهرب من هذا الواقع بمختلف الطرق، المهم الا يفكر، الا يواجه نفسه. فيهرب ويهرب بكلّ ما يقتل وقته: فيعبد الرّياضة ويدمن الخمور والمخدرات، الجنس او الانترنت، او اي شيء يسكره ويلهيه عن واقعه. بالاصدقاء بالانشطة واحيان بفعل اشياء متتالية، منها الحسن ايضاً، لكن المهم الا يقف، الا يجد لحظة يواجه فيها نفسه. يهرب، وعندما يتعب من الهرب ويكتشف بانه يهرب، يهرب من هروبه بهروب آخر………
بعكس ابراهيم، فهو لا يهرب. يعرف عمق مأساته. هو يعتقد بان الحل يكمن في ان يكون لديه نسل. فنسله سيكمل مسيرته وحياته. ابراهيم يجد الحل ليخرج من مأساته: الابن. ابراهيم يضع رجاءه وكيانه وحل مأساته الوجودية في الحصول على ابن. ان وُجد الابن حُلّت المأساة. هل هذا صحيح؟ هل يكفي ان يكون للانسان ابن ليحل مأساته الوجودية وخوفه من الموت؛ ايكفي هذا؟
الرّبّ يردّ على ابراهيم ويقول له: لا تخف لن يرثك عبدك بل ابن من نسلك. يأخذه خارجاً ويقول له: انظر الى السّماء واحصِ كواكبها ان استطعت، فهكذا سيكون نسلك (تك 15: 4 ـ 6). الرّبّ يطمئن ابراهيم: سيكون لك نسل اكبر مما تستطيع ان تحصي. نعم نسل لا تستطيع ان تحصيه. ستكون لهم اباً.
امام هذا آمن ابراهيم. امام مأساته، ووعد من الله، ابراهيم لا يعطي اذناً لصوت الواقع الذي يسمعه ويريه الموت فقط، بل يصغي ويؤمن بما وعده الله . “فحسب له ذلك برّاً” (تك 15: 6). هذا هو البرّ، ان يصدق الانسان وعد الله بالحياة، وان كان لا يرى تلك الحياة، بل يرى فقط الموت. هذا هو البرّ ان يصدق وعد الله حتى وان كان لا يراه.
لكن ايّ نسل هذا؟ منذ فترة طويلة، قال الرّبّ ذلك، لكنّ شيئاً لم يتحقق. فما الضمان هذه المرة؟ ماذا سيفعل الرّبّ ليؤكّد وعده لابراهيم؟ وماذا يقصد بكلّ هذا النّسل؟ وهل النّسل سيحل مأساة ابراهيم وينزع منه الخوف؟ ايكفي ان يقول الرّبّ لابراهيم، لا تخف، كي لا يخف؟…
للمرة القادمة.