“أنتم القيمون على الجمال”
حاضرة الفاتيكان، الاثنين 23 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي القسم الأول من الكلمة التي ألقاها بندكتس السادس عشر يوم السبت الفائت في كابيلا السيستينا خلال مقابلة مع 260 فناناً ذا شهرة عالمية.
***
أيها الكرادلة الأعزاء،
أيها الإخوة الأساقفة والكهنة،
أيها الفنانون الموقرون،
سيداتي وسادتي،
أرحب بكم بفرح عظيم في هذا المكان المهيب الزاخر بالفن والتاريخ. أحييكم جميعاً بمودة وأشكركم على تلبية دعوتي. في هذا اللقاء، أرغب في تجديد التعبير عن صداقة الكنيسة مع عالم الفن، هذه الصداقة التي تعززت أواصرها على مر الزمن. فالمسيحية عرفت منذ بداياتها قيمة الفنون وحرصت على استخدام لغتها المتبدلة بحكمة للتعبير عن رسالتها الخلاصية غير المتبدلة. لا بد من تعزيز هذه الصداقة ودعمها باستمرار لتكون حقيقية ومثمرة، ومتكيفة مع مختلف الحقبات التاريخية ومتنبهة للمتغيرات الاجتماعية والثقافية. وفي الواقع أن هذا هو سبب لقائنا هنا اليوم. إنني أشعر بالامتنان العميق لرئيس الأساقفة جيانفرنكو رافاسي، رئيس المجلس الحبري للثقافة واللجنة الحبرية لإرث الكنيسة الثقافي، وللموظفين في هذا المجلس على تنظيم هذا اللقاء ورعايته، وأشكره على الكلمات التي وجهها لي. أحيي الكرادلة والأساقفة والكهنة ومختلف الشخصيات الموقرة الحاضرة. كذلك أشكر جوقة كابيلا السيستينا على إسهامها في هذا اللقاء. يتركز لقاء اليوم عليكم أيها الفنانون الأعزاء واللامعون، المتحدرون من مختلف البلدان والثقافات والديانات. لربما يبتعد بعضكم عن ممارسة الشعائر الدينية، إلا أنه يهتم في البقاء على تواصل مع الكنيسة الكاثوليكية، وعلى عدم تقليص آفاق الوجود إلى مجرد وقائع مادية، وإلى رؤية اختزالية ومبتذلة. بما أنكم تمثلون عالم الفنون المتنوع، أرغب أن أوجه من خلالكم دعوة إلى جميع الفنانين إلى الصداقة والحوار والتعاون.
تصادف بعض الأحداث المهمة خلال هذه الفترة. إنها الذكرى السنوية العاشرة لصدور الرسالة التي وجهها سلفي الحبيب خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني إلى الفنانين. للمرة الأولى، وعشية اليوبيل الكبير لسنة 2000، كتب البابا الذي كان فناناً بدوره رسالة إلى الفنانين جمع فيها رزانة وثيقة حبرية ونبرة ودية لحديث بين جميع الأشخاص “الملتزمين بحماسة بالبحث عن “ظواهر” جديدة من الجمال”، حسبما نقرأ في التحية الأولى. منذ 25 عاماً، أعلن البابا عينه المبارك فرا أنجيليكو شفيع الفنانين، مقدماً إياه مثالاً للتناغم المثالي بين الإيمان والفن. كذلك أذكركم بالحدث التاريخي الذي وقع هنا في 07 مايو 1964، أي منذ 45 سنة، عند إعلان البابا بولس السادس عن رغبته في ترسيخ الصداقة بين الكنيسة والفنون. ما تزال الكلمات التي قالها في تلك المناسبة ترجع صدىً اليوم تحت قبة كابيلا السيستينا وتلامس قلوبنا وعقولنا. قال: “إننا بحاجة إليكم. إننا بحاجة إلى تعاونكم في سبيل إتمام رسالتنا القائمة كما تعلمون على التبشير وجعل قلوب شعوبنا وأذهانها تدرك أمور الروح، غير المنظور، الفائق الوصف، أمور الله نفسه، وتفهمها. في هذا النشاط… تبرز براعتكم. هذه هي مهمتكم. يقوم فنكم على فهم كنوز من عالم الروح السماوي وتجسيدها في كلمات وألوان وأشكال – وجعلها في متناول البشر”. كان تقدير بولس السادس عظيماً للفنانين حتى أنه استخدم عبارات جريئة، مضيفاً “وإن حرمنا من مساعدتكم، لأضحت خدمتنا مضطربة ومتقلبة، وبرزت الحاجة إلى مجهود خاص نوعاً ما لجعلها فنية ونبوية. في سبيل رفع مستوى التعابير المؤثرة للجمال الحدسي، لا بد من توافق الكهنوت مع الفن”. في تلك المناسبة، التزم بولس السادس بـ “إعادة تأسيس الصداقة بين الكنيسة والفنانين”، ودعا الفنانين إلى القيام بالمثل محللين بجدية وموضوعية العناصر التي عكرت هذه العلاقة، ومتحملين مسؤولية فردية بشجاعة وحماسة من أجل مسار أحدث وأعمق من المعرفة المتبادلة والحوار بغية التوصل إلى “نهضة” فن حقيقية في سياق حركة إنسانية جديدة.
إن ذلك اللقاء حصل هنا، كما ذكرت، في معبد الإيمان والإبداع البشري. ليس من قبيل المصادفة أن نجتمع معاً في هذا المكان المعروف بهندسته ورمزيته، وبخاصة بالجداريات التي تجعلها فريداً، من روائع بيروجينو وبوتيتشيللي، غيرلاندايو وكوزيمو روسيلي، لوكا سينيوريللي، وغيرهم، إلى مشاهد التكوين ويوم القيامة لمايكل آنجلو بوناروتي الذي منحنا هنا أحد أروع الإبداعات في تاريخ الفن كله. وكثيراً ما سمعت لغة الموسيقى العالمية هنا، بفضل نبوغ موسيقيين عظام وضعوا فنهم في خدمة الليتورجيا، مساعدين الروح على الارتقاء نحو الله. في الوقت عينه، تنبض كابيلا السيستينا بالتاريخ، بما أنها المسرح المهيب للأحداث التي تطبع تاريخ الكنيسة والبشر. هنا كما تعلمون ينتخب الكرادلة البابا؛ وهنا اختبرت شخصياً لحظات انتخابي خليفة الرسول بطرس، بخشية وإنما بثقة مطلقة بالرب.
أيها الأحباء، دعونا نسمح لهذه الجداريات بمخاطبتنا اليوم، وجذبنا نحو الغاية السميا في التاريخ البشري. إن لوحة يوم القيامة التي ترونها ورائي تذكرنا أن التاريخ البشري حركة وارتقاء، نزعة مستمرة نحو الاكتمال، والسعادة البشرية، ونحو آفاق تسمو دوماً فوق اللحظات الحاضرة حتى بعد عيشها. لكن المشهد المثير في هذه الجدارية يضع أيضاً أمام أعيننا خطر السقوط الحاسم للإنسان، الخطر الذي يهدد بإغراقه إن أغرته قوى الشر. من هنا تطلق الجدارية صرخة
نبوية قوية ضد الشر، وضد كافة أشكال الظلم. لكن المسيح القائم من بين الأموات يعتبر الطريق والحق والحياة للمؤمنين. إنه الباب الذي نرى من خلاله الله وجهاً لوجه، الله الذي تنبع منه السعادة المطلقة والتامة والحاسمة. هكذا يقدم لنا مايكل آنجلو الألف والياء، البداية والنهاية، ويدعونا إلى السير على درب الحياة بفرح وشجاعة ورجاء. ويصبح الجمال المثير للوحة مايكل آنجلو، وألوانها وأشكالها، إعلان رجاء، ودعوة إلى رفع أنظارنا نحو الأفق السامي. لقد كان الرابط العميق بين الجمال والرجاء المحتوى الأساسي للرسالة التذكيرية التي وجهها بولس السادس للفنانين في ختام المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني في 08 ديسمبر 1965. فأعلن قائلاً: ” إن كنيسة المجمع تعلن لكم جميعاً من خلالنا: إن كنتم أصدقاء الفن العريق، فأنتم أصدقاؤنا”. وأضاف: “هذا العالم الذي نعيش فيه بحاجة إلى الجمال لكي لا يقع في اليأس. إن الجمال، على مثال الحقيقة، يحمل الفرح لقلب الإنسان، ويعتبر الثمرة الثمينة التي تقاوم تآكل الزمن، وتوحد الأجيال، وتسمح لها بالاتحاد في الإعجاب. وكل ذلك يحصل من خلال عمل أياديكم… تذكروا أنكم القيمون على الجمال في العالم”.