روما، الخميس 26 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه بندكتس السادس عشر يوم الأربعاء 25 نوفمبر خلال المقابلة العامة في قاعة بولس السادس في الفاتيكان.
***
إخوتي وأخواتي الأعزاء،
خلال مقابلات الأربعاء، أقدم بعض الشخصيات النموذجية من المؤمنين الذين التزموا بإظهار الوفاق بين العقل والإيمان، والشهادة من خلال حياتهم لإعلان الإنجيل. أنوي اليوم التحدث إليكم عن هوغ وريشار دي سان فيكتور اللذين يندرجان في عداد هؤلاء الفلاسفة واللاهوتيين المعروفين باسم الفيكتوريين لأنهم عاشوا وعلموا في دير القديس فيكتور في باريس الذي أسسه غيوم دي شامبو في بداية القرن الثاني عشر. لقد كان غيوم أستاذاً ذائع الصيت توصل إلى منح ديره هوية ثقافية راسخة. ففي دير القديس فيكتور، افتتحت مدرسة لتنشئة الرهبان وغيرهم من الطلاب، وتحقق فيها توليف سار بين طريقتي اللاهوت اللتين تحدثت عنهما في التعاليم السابقة: أي اللاهوت الرهباني الموجه نحو التأمل بأسرار الإيمان في الكتاب المقدس، واللاهوت المدرسي الذي كان يستخدم العقل لمحاولة البحث في هذه الأسرار بطرق مبتكرة، وخلق نظام لاهوتي.
ليس لدينا الكثير من المعلومات حول حياة هوغ دي سان فيكتور. فتاريخ ومكان ولادته غير مؤكدين: ربما في ساكسونيا أو في فلاندرز. نعلم أنه عند وصوله إلى باريس – العاصمة الأوروبية للثقافة آنذاك – أمضى بقية حياته في دير القديس فيكتور حيث تعلم وأصبح معلماً. قبل وفاته سنة 1141، ذاعت شهرته وحظي بتقدير كبير حتى سمي “القديس أغسطينوس الثاني”: لأنه تأمل طويلاً، على غرار أغسطينوس، في العلاقة بين الإيمان والعقل، بين العلوم الدنيوية واللاهوت. واعتبر هوغ دي سان فيكتور أن كل العلوم ليست فقط مفيدة لفهم الكتاب المقدس، وإنما قيّمة بجوهرها مما يوجب تدريسها لتوسع معرفة الإنسان وتروي ظمأه إلى معرفة الحقيقة. وقد أدى به هذا الفضول الفكري السليم إلى توصية تلاميذه بعدم تقييد الرغبة في التعلم، وأوصى في مؤلفه عن منهجية المعرفة والتربية، المعنون بطريقة بليغة Didascalion (التعليم) ما يلي: “تعلم من الجميع ما تجهله. فالأكثر علماً بين الجميع هو الذي يريد التعلم من الجميع. من ينل شيئاً من الجميع، يصبح الأغنى بينهم” (Eruditiones Didascalicae، 3-14: 176، 774).
إن العلم الذي يهتم به الفلاسفة واللاهوتيون الفيكتوريون هو بخاصة اللاهوت الذي يستلزم أولاً دراسة الكتب المقدسة بطريقة مفعمة بالمحبة. ففي سبيل معرفة الله، لا يسعنا إلا الانطلاق مما أراد الله أن يظهره عن نفسه في الكتاب المقدس. من هنا، يعتبر هوغ دي سان فيكتور ممثلاً نموذجياً عن اللاهوت الرهباني القائم كلياً على التفسير البيبلي. وفي سبيل تفسير الكتاب المقدس، يقترح هوغ البيان التقليدي الآبائي والقروسطي، أي المعنى التاريخي والحرفي أولاً، ومن ثم المعنى المجازي والباطني، وأخيراً المعنى المعنوي. إنها الأبعاد الأربعة لمعنى الكتابة التي نعيد اليوم اكتشافها والتي نرى من خلالها أن النص يتضمن دلالة أعمق: خيط الإيمان الذي يرشدنا إلى العلى ويرشدنا على هذه الأرض، ويعلمنا كيفية العيش. مع ذلك، ومن خلال مراعاة هذه الأبعاد الأربعة لمعنى الكتابة، بطريقة مبتكرة نسبة إلى معاصريه، يشدد على أهمية المعنى التاريخي والحرفي – الأمر الذي يعتبر جديداً. بمعنى آخر، وقبل اكتشاف القيمة الرمزية، الأبعاد العميقة للنص البيبلي، لا بد من معرفة معنى التاريخ المحكي في الكتاب المقدس والتعمق به: وإلا – يحذر من خلال استخدام مقارنة فعالة – نكون كعلماء النحو الذين يجهلون الأبجدية. ومن يعلم معنى التاريخ الموصوف في الكتاب المقدس، تبدو له الأحداث البشرية متسمة بالعناية الإلهية، وفقاً لتدبيرها المنظم. وهكذا فإن هوغ دي سان فيكتور يرى أن التاريخ ليس نتاج قدر عشوائي أو صدفة عبثية، كما يبدو الأمر ظاهرياً. على العكس تماماً، يعمل الروح القدس في التاريخ البشري، ويثير حواراً رائعاً بين البشر والله صديقهم. هذه الرؤية اللاهوتية للتاريخ توضح التدخل المذهل والخلاصي لله الذي يدخل حقاً في التاريخ ويعمل فيه، ويشارك في تاريخنا، وإنما من خلال الحفاظ الدائم على حرية الإنسان ومسؤوليته واحترامهما.
يرى مؤلفنا أن دراسة الكتاب المقدس ومعناه التاريخي والحرفي تفتح المجال أمام اللاهوت الحقيقي أي إظهار الحقائق على نحو منظم لمعرفة بنيتها، إظهار عقائد الإيمان التي يقدمها في توليف وثيق في المؤلف De Sacramentis christianae fidei (أسرار الإيمان المسيحي) الذي يشتمل على تعريف لكلمة “سر”، تعريف يحتوي على أفكار مهمة جداً حتى اليوم، بعد أن حسنه لاهوتيون آخرون في وقت لاحق. ويكتب: “السر عنصر جسدي أو مادي مقترح بطريقة ظاهرية ومحسوسة، يمثل بشبهه نعمة خفية وروحية ويعنيها لأنه أقيم لهذه الغاية، ويحتويها لأنه قادر على التقديس” (9، 2: 176، 317). من جهة، رؤية الرمز، و”الطبيعة الجسدية” لهبة الله، التي تستتر فيها من جهة أخرى النعمة الإلهية الناشئة عن تاريخ: يسوع المسيح خلق الرموز الأساسية. من هنا تسهم ثلاثة عناصر في تعريف سر، وفقاً لهوغ دي سان فيكتور: التأسيس من قبل المسيح، نقل النعمة، والتماثل بين العنصر المادي المنظور والعنصر غير المنظور، أي الهبات الإلهية. إنها رؤية قريبة من الرأي المعاصر لأن الأسرار تقدم بلغة محبوكة بالرموز والصور القادرة على التحدث مباشرة إلى قلوب البشر. كذلك من المهم اليوم أن يقدر القادة الليتورجيون وبخاصة الكهنة، الرموز الخاصة بالطقوس الأسر
ارية – رؤية النعمة ولمسها – بحكمة رعوية، مهتمين بالتعليم الديني لكيما يعيش المؤمنون كل احتفالات الأسرار بتفانٍ وقوة وفرح روحي.
أما ريشار ذات الأصول الاسكتلندية فهو تلميذ هوغ دي سان فيكتور. شغل منصب رئاسة دير القديس فيكتور منذ 1162 لغاية 1173، سنة وفاته. وقام من جهته بإعطاء دور مهم لدراسة الكتاب المقدس ولكنه خلافاً لأستاذه فضل المعنى المجازي للكتاب المقدس الذي يفسر من خلاله مثلاً شخصية بنيامين ابن يعقوب الواردة في العهد القديم، كرمز التأمل وذروة الحياة الروحية. يعالج ريشار هذه المسألة في نصين هما بنيامين الأصغر وبنيامين الأكبر، اللذين يقترح فيهما على المؤمنين درباً روحية تدعو أولاً إلى ممارسة مختلف الفضائل، وتعلم ضبط وتنظيم المشاعر والميول العاطفية الروحية من خلال العقل. فقط عندما يبلغ الإنسان التوازن والنضج البشري في هذا المجال، يصبح مستعداً للتأمل الذي يعرف ريشار عنه كـ “نظرة الروح العميقة والصافية إلى آيات الحكمة، والمرتبطة بمعنى افتتاني من التعجب والإعجاب” (بنيامين الأكبر، 1، 4: 196، 67).
إن التأمل إذاً هو نقطة الوصول، نتاج درب صعبة تشتمل على الحوار بين الإيمان والعقل، أي – مجدداً – حوار لاهوتي. ينطلق اللاهوت من حقائق تشكل موضوع الإيمان، لكنه يسعى إلى تعميق المعرفة من خلال استخدام العقل وامتلاك هبة الإيمان. وبطريقة مقنعة، يظهر تطبيق التفكير لفهم الإيمان في عمل ريشار الرائع، أحد أهم الكتب في التاريخ، De Trinitate (الثالوث). ففي الكتب الستة التي تؤلفه، يفكر بعمق في سر الله الواحد والثالوث. ونظراً إلى أن الله محبة، فإن الجوهر الإلهي الواحد يتضمن التواصل والتضحية والمحبة بين أقنومين هما الآب والابن اللذين يوجد بينهما تبادل أبدي من المحبة، بحسب مؤلفنا. لكن كمال المحبة والجودة لا يقبل التفرد والانغلاق، بل يتطلب على العكس الحضور الأبدي لأقنوم ثالث هو الروح القدس. إن المحبة الثالوثية إسهامية ومتصالحة تتضمن وفرة من اللذة والمتعة والفرح الدائم. هنا يفترض ريشار أن الله محبة، فيحلل جوهر المحبة، ما ينطوي عليه واقع المحبة، وصولاً إلى ثالوث الأقانيم، الذي يعتبر فعلاً التعبير المنطقي عن كون الله محبة.
إلا أن ريشار يدرك أن المحبة مجرد تماثل للحديث عن سر يتخطى الفكر البشري، على الرغم من أنها تكشف لنا جوهر الله، وتجعلنا نفهم سر الثالوث. كما أنه يلجأ كشاعر صوفي إلى استخدام صور أخرى. فيشبه الألوهية مثلاً بنهر، بموجة محبة تنبع من الآب، وتصب في الابن لتنتشر بسعادة في الروح القدس.
أيها الأحباء، إن المؤلفين أمثال هوغ وريشار دي سان فيكتور يرفعون أرواحنا إلى التأمل بالوقائع الإلهية. في الوقت عينه، يسهم الفرح العظيم الذي يوفره لنا التفكير بالثالوث الأقدس والإعجاب به وتسبيحه في ترسيخ ودعم الالتزام باستلهامنا من هذا النموذج المثالي من الشركة في المحبة لبناء علاقاتنا البشرية اليومية. حقاً أن الثالوث شركة مثالية! كم يتغير العالم لو تشهد العائلات والرعايا وكل الجماعات الأخرى علاقات تتبع مثال الأقانيم الإلهية الثلاثة التي لا يعيش فقط أحدها مع الآخر، وإنما للآخر ومع الآخر! وقد ذكرت بذلك منذ بضعة أشهر خلال صلاة التبشير الملائكي: “وحدها المحبة تسعدنا لأننا نعيش مع بعضنا البعض، ونعيش لنحِب ونحَب”(لوسيرفاتوري رومانو، 8-9 يونيو 2009، ص.1). إن المحبة هي التي تحقق هذه المعجزة المستمرة: على مثال حياة الثالوث الأقدس، تتحول التعددية إلى وحدة يملأها الفرح. ومع القديس أغسطينوس الذي يجله الفيكتوريون، يمكننا أن نهتف نحن أيضاً: “إن رأيت المحبة، تأملت الثالوث” (الثالوث، VIII، 8، 12).
ترجمة وكالة زينيت العالمية
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009