بدت كنجمة الصبح مُعْلِنةً شروق شمس المسيح للشعوب المنتظرة، كي يبدّد ظلمة حياتها ويعتقها من نير عبوديّة الضعف والخطيئة والخوف.
بَدَتْ “علامة رجاء للّذين لا رجاء لهم”. رجاء أعطي لها يوم البشارة، فَرَأته متجسّداً، ينمو مع حبّها الكبير، ويُزهر بالعطاء حتّى الصليب فالقيامة.
* يا ممتلئة نعمة
تلك المرأة البتول فهمت رسالة الآب لها، فبدأت بتتميمها حاملةً يسوع إلى العائلة في أوّل زيارة لها، إلى عائلة زكريا وأليصابات، كي تفتح ذهننا على قدسيّة الزواج والأولاد وأهمّية الخدمة في حقل الرسالة الأوّل.
أُمُّ المَلِك تخدم بفرح وتواضع دون أن تعرف إلى التشاوف سبيلاً، لأنّها أدركت أنّ من يمتلئ من الله عليه أن يفيض بالمحبّة المتجرّدة والخدمة بوداعة، فَيَسْمو بالقداسة.
ونحن، هل نَنْظر إلى حاجات بعضنا البعض، ليس فقط المادّيّة منها بل وأيضاً المعنويّة والروحيّة والإجتماعية، بدءًا من البيت؟ هل نبحث عن مشروع الله لنا، وعن دورنا الحقيقي في عوائلنا، فالمجتمع، دون التعلّق بمشروعنا الرَغْبَويّ الشخصيّ التابع أهواءنا؟
* وارتكض الجنين من الفرح
سلام مريم، حاملة العهد الجديد، جعل حضور الله جليًّا فيها وفاض على مَنْ حولها، “فارتكض يوحنّا فرحاً”، إهتزّ بصورة غير إعتياديّة أو مألوفة، وامتلأت والدته من الروح القدس، فتعرّفت إلى “ربّها” يسوع، (“من أين لي أن تأتي أمّ ربّي إليّ؟”)، لأنّه، كما أنّ “السراج المضاء لا يوضع تحت الطاولة أو المكيال”، كذلك من المستحيل أن يبقى حضور الله في أعماق الإنسان، مَخْفِيّاً دون أن يتجلّى حيّاً في الأقوال والأعمال والأفكار، ناثراً فرحاً وسلاماً كعبير الورد الذي يأتيك أيًّا كائناً من كان، فيُنْعِشه.
ونحن، هل ندرك ما يفعله حضور الله فينا؟ إنّه يحوّل تحجّرنا إلى رقّة، وفظاظتنا إلى لطافة. أمّا عند الحزم فإنّه يجعلنا نمسك بسيف الحقّ في رسالتنا، مستخدمين منه الحدّ الّذي يَبْني، كاشفاً لنا وجهه في الآخَر، فنحبّه فيه، ونتفاعل معه دون تكلّفٍ أو تصنّعٍ فَيَبان وجه الحبيب الرحوم من خلال وقوفنا جنباً إلى جنب في الحزن كما في الفرح، في الضيق كما في الكفاية.
* طوبى للّتي آمنت بما فعله الرّبّ لها
“نيّالك!” صرخت أليصبات وهتفت بصوت عالٍ دون خجل، لأجل إيمان مريم العميق واللامحدود بأمانة الرّبَ لها. ربّما كثيرات هنّ اللّواتي انتظرن البشارة في تلك الأيّام، وأكثرنَ من التقدمات والابتهالات، علّ الآب يَراهُنَّ، فيختارهُنَّ أمّهات لابنه الوحيد. لكنّه دخل من الباب الّذي لا يتوقّعه بَشَر. دخل من باب التجرّد، ومعرفة أهمّية الإصغاء، والبراءة الطفوليّة المقترنة بحكمة الشّيوخ في إدراك أَبعاد مشروع الله لأبنائه، فحَظِيَت مريم بالبُشرى، ومضت بها ثابتة حتّى الصليب.
ونحن، أيّ “نيّالك” نقول؟ نقولها غالباً بحسرة الغيرة والحسد من الآخر عند حصوله على ما هو مادّي ومحدود بالزمن الأرضيّ، ونَنْسى أنّه “نيّال” كلّ من أدرك منّا قيمة ما أغدقه الربّ عليه من نِعَم في العقل والقلب والروح واللسان. نَنْسى لجهلنا، المقدّرات التي غالباً ما نُحْكِم الإغلاق عليها في صندوق “العَتايق”، خوفاً من أن تدفعنا إلى التخلّي عمّا يدغدغ شهواتنا وأمزجتنا، محتفظين بها لشيخوختنا، ساعة لا نعود قادرين على الحركة، فنخرجها بحجّة تقوانا وَوَرَعنا.
أيّ باب نتوقّع، وماذ ننتظر وكيف نطلب؟ إن حدث لنا أمراً خارجاً عن المألوف، بدّل حياتنا وأصلح علاقتنا بالآب، فهل نأخذ ذلك على أنّه حدثٌ صدفة، ولا علاقة له بالعناية الإلهيّة، كي نَظْهَرَ للآخرين وكأنّنا متعقّلين، فَنَتَفادى التّهكُّم والإتّهامات “الفلسفيّة”؟ أم أنّنا نكون أولئك المسيحيّين المؤمنين، المدركين لرسالتهم، فنفتخر بإعلاننا “قدرة العليّ” ومحبّته لنا من خلال ما حَدَثَ؟ هل نتلقّاه بإيمان أليصابات، وندع جنين حبّ الخالق “يرتكض” فرَحًا داخلنا، فنُعْلِنُه لِلمَلأ بصوتٍ صارخٍ مؤمن، دون خجلٍ أو تمَلْمُلٍ؟ هل نجرؤ؟
هل نؤمن بوساطة تلك الأم التي، بثقة تامّة، وهَبَتْ روحها وقلبها، جسدها وجمالها كلّه إلى “عريسها”، فكافأها بالملوكيّة الدائمة، والأمومة الأبديّة لكلّ البشر؟
إنّ المفتاح الذي نبحُث عنه اليوم هو في يد مريم، والباب الذي لا نراه غالباً، هو في عائلاتنا الصغيرة. أمّا ما ننتظره، ربّما أتجرّأ على القول بأنّنا نجهل ماذا نريد ولا نعلم ماذا ننتظر. لتكن لنا إذن، وقفة مع الذات، مكرّسين بعضأ من وقتنا الضائع، كي نصغي إلى همسة الحبيب وما يريد أن يخبرنا به مُلْتَقينَ به وجهاً لوجه، كما حدث مع مريم وأليصابات. فإن كنّا لا نحسن الإصغاء إلى من في داخلنا يقيم،أعني به روح الله، فكيف لنا أن نجيد الإصغاء للآخر، حتّى ولو كان الشريك (الزوج والزوجة)؟
ولْنَثِق أيضاً، بأنّ مريم في انتظارنا تصلّي، ولنُمْسِك بيدها كي نفتح الباب الذي يقرع برقّة النسيم، فيدخل منه إبن الإنسان ومعه مصباح خلاصنا.