روما، الخميس 14 أكتوبر 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه البابا بندكتس السادس عشر خلال مقابلة الأربعاء العامة في ساحة القديس بطرس.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
أود أن أتحدث إليكم اليوم عن الطوباوية أنجيلا دو فولينيو، إحدى المتصوفات القروسطيات العظيمات التي عاشت في القرن الثالث عشر. كالعادة، يفتتن المرء بذروة تجربة الاتحاد مع الله التي وصلت إليها، وإنما لا تؤخذ بالاعتبار خطواتها الأولى إلى جانب اهتدائها والدرب الطويلة التي أرشدتها منذ نقطة الإنطلاق “الخوف الكبير من الجحيم”، حتى الغاية السامية، الاتحاد التام مع الثالوث.
إن القسم الأول من حياة أنجيلا ليس بالتأكيد قسماً من حياة إحدى تلميذات الرب المندفعات. فقد ولدت حوالي سنة 1248 في عائلة ميسورة، وتيتمت بفقد والدها، وربتها أمها بطريقة سطحية. في وقت مبكر جداً، تعرفت إلى البيئات الدنيوية في مدينة فولينيو حيث تعرفت إلى رجل تزوجت به في العشرين من عمرها وأنجبت منه أطفالاً. اتسمت حياتها باللامبالاة لدرجة أنها كانت تحتقر من كانوا يدعون “التائبين” – الذين كانوا كثيرين في تلك الحقبة – أي الذين كانوا يبيعون ممتلكاتهم ويعيشون في الصلاة والصوم وخدمة الكنيسة والمحبة في سبيل اتباع المسيح.
أحداث عدة منها زلزال عنيف وقع سنة 1279، وإعصار والحرب القديمة ضد بيروجيا وتداعياتها الوخيمة، أثرت في حياة أنجيلا التي بدأت تعي تدريجياً ذنوبها حتى قامت بخطوة حاسمة. فابتهلت إلى القديس فرنسيس الذي ظهر لها في رؤيا لتطلب مشورته بشأن اعتراف جيد وعام. وفي سنة 1285، اعترفت أنجيلا لأخ في سان فيليشيانو. بعد ثلاث سنوات، اتخذ مسار الاهتداء منحى جديداً تمثل في تفكك الروابط العائلية. ففي غضون أشهر قليلة، وبعد وفاة والدتها، مات زوجها وكل أبنائها. عندها، باعت ممتلكاتها وانضمت سنة 1291 إلى تجمع العلمانيين التابع للقديس فرنسيس. وتوفيت في فولينيو في الرابع من يناير سنة 1309.
إن كتاب الطوباوية أنجيلا من فولينيو الذي يضم الوثائق المتعلقة بطوباويتنا يروي هذا الاهتداء؛ ويشير إلى السبل الضرورية: التوبة، التواضع والمحن؛ كما يروي مراحله وتعاقب تجارب أنجيلا التي بدأت سنة 1285. فمن خلال تذكرها بعد عيشها إياها، حاولت سردها عن طريق الأخ المعرف الذي نقلها بأمانة، وسعى لاحقاً إلى تقسيمها إلى مراحل سماها “مراحل أو تغيرات” من دون النجاح في تنظيمها بالكامل (راجع كتاب الطوباوية أنجيلا من فولينيو، تشينيسيلو بالسامو 1990، ص. 51). ويعود السبب في ذلك إلى أن تجربة اتحاد الطوباوية أنجيلا كان إشراكاً تاماً للحواس الروحية والجسدية، وأن ما كانت تفهمه خلال انخطافها كان يبقى “خيالاً” في ذهنها. وتعترف قائلة بعد انخطاف روحي: “لقد سمعت فعلاً هذه الكلمات، ولكن ما رأيته وفهمته، وما أظهره (أي الله) لي، لا أدري كيف أقوله بأي طريقة على الرغم من أنني سأكشف بطيبة خاطر ما فهمته من خلال الكلمات التي سمعتها، وإنما كانت هاوية يصعب وصفها”.
تقدم أنجيلا من فولينيو تجربتها الروحية من دون إعدادها بفكرها لأنها إلهامات إلهية تنكشف لروحها بطريقة غير متوقعة ومفاجئة. حتى أن الأخ المعرف يجد صعوبة في سرد أحداث مماثلة “بخاصة بسبب تحفظها الكبير والرائع تجاه المواهب الإلهية” (المصدر عينه، ص. 194). إلى الصعوبة التي تجدها أنجيلا في التعبير عن تجربتها الروحية، تضاف صعوبة فهم محاوريها لها. يظهر هذا الوضع بوضوح أن السيد الوحيد والحقيقي يسوع يعيش في قلب كل مؤمن ويرغب في الحيازة عليه بشكل تام. وهذا ما حصل مع أنجيلا التي كانت تكتب لأحد أبنائها الروحيين: “يا بني، لو أنك ترى قلبي، لكنت مجبراً على فعل كل ما يريده الله، لأن قلبي هو قلب الله، وقلب الله هو قلبي”. هنا تدوي كلمات القديس بولس: “وفيما بعد لا أحيا أنا بل المسيح يحيا في” (غل 2، 20).
سنتأمل فقط في بعض الخطوات في المسار الروحي الغني لطوباويتنا. في الواقع أن الأولى هي مقدمة منطقية: “الخطوة الأولى هي معرفة الخطيئة – كما توضح – التي تخشى الروح بسببها من الهلاك في الجحيم. في هذه الخطوة، تبكي الروح بمرارة” (كتاب الطوباوية أنجيلا من فولينيو، ص. 39). هذا الخوف من الجحيم يتطابق مع نوع الإيمان الذي كانت أنجيلا تشعر به عند “اهتدائها”؛ كان إيماناً يفتقر إلى المحبة، أي إلى محبة الله. ففعل التوبة والخوف من الجحيم والتكفير كلها أمور فتحت لأنجيلا آفاق “درب الصليب” الأليم التي أرشدتها من الخطوة الثامنة إلى الخامسة عشرة إلى “درب المحبة”. ويروي المعرف: “تقول لي المؤمنة: انكشفت لي هذه الرؤيا الإلهية: “بعد الذي كتبته، اكتبي أنه ينبغي على من يريد الحفاظ على النعمة ألا يبعد نظر روحه عن الصليب سواء في الفرح أم في الحزن الذي أمنحه إياه أو أسمح له به” (المصدر عينه، ص. 143). ولكن في هذه المرحلة أيضاً، لا تشعر أنجيلا بالمحبة؛ تقول: “تقاسي الروح الخجل والمرارة ولا تعيش تجربة المحبة بل الألم” (المصدر عينه، ص. 39)، ولا تشعر بالرضى.
تشعر أنجيلا أنه ينبغي عليها أن تقدم شيئاً لله لتكفر عن ذنوبها، لكنها تفهم ببطء أنها لا تملك شيئاً تقدمه وأنها “نكرة” في حضرته؛ تفهم أن إرادتها ليست هي التي ستعطيها محبة الله لأن هذا لن يعطيها شيئاً سوى “عدمها” و”عدم المحبة”. وكما تقول: وحدها “المحبة الفعلية والنقية النابعة من الله موجودة في الروح، وهي التي تجعلها تدرك عيوبها الخاصة والجودة الإلهية. […] هذه المحبة تحمل الروح في المسيح، وتفهم بثقة بأن لا إمكانية لوجود أي غش.
مع هذه المحبة لا تختلط أمور هذا العالم” (المرجع عينه، ص. 124-125). بالانفتاح التام على محبة الله التي تجد أسمى تعابيرها في المسيح، تصلي: “يا إلهي، اجعلني مستحقة لمعرفة السر الأسمى الذي استخدمته محبتك الحارة والفائقة الوصف، بمحبة الثالوث، أي السر السامي المتمثل في تجسدك المقدس من أجلنا. […] أيتها المحبة التي لا تُدرَك! لا محبة أعظم من هذه المحبة التي سمحت لإلهي بأن يصير إنساناً ليجعلني الله” (المصدر عينه، ص. 295). مع ذلك، يحمل قلب أنجيلا للأبد جراح الخطيئة؛ وحتى بعد اعتراف جيد، كانت تجد أنها مسامَحة ورازحة تحت وطأة الخطيئة، حرة وخاضعة للماضي، مسامحة وإنما بحاجة إلى التكفير عن ذنوبها. كذلك ترافقها فكرة الجحيم، لأن الروح كلما تقدمت على درب الكمال المسيحي، كلما اقتنعت ليس فقط بأنها غير مستحقة وإنما أيضاً بأنها تستحق الجحيم.
وها هي أنجيلا تفهم في مسيرتها الروحية الواقع الأساسي: ما سيخلصها من “عدم جدارتها” ومن “الجحيم الذي تستحقه” لن يكون اتحادها مع الله وامتلاك “الحقيقة”، وإنما يسوع المصلوب “صلبه لأجلي”، محبته. في الخطوة الثامنة، تقول: “لم أفهم بعد إن كان الخير الأعظم هو تحرري من الذنوب والجحيم والاعتراف والتكفير أو صلبه من أجلي” (المرجع عينه، ص. 41). هذا هو التوازن المتقلب بين المحبة والألم، الذي يمكن ملاحظته في دربها الشاقة نحو الكمال. لهذا تحديداً، تتأمل المسيح المصلوب لأنها في هذه الرؤية تشهد تحقق التوازن الكامل: على الصليب، يوجد الإنسان الله، في فعل تألم عظيم هو فعل محبة عظيم.
في التعليم الثالث، تشدد الطوباوية على هذا التأمل وتقول: “عندما ننظر بمزيد من الكمال والنقاوة، نحب بمزيد من الكمال والنقاوة. […] لذلك، كلما رأينا الله الإنسان يسوع المسيح، كلما تبدلنا فيه من خلال المحبة. […] وما قلته عن المحبة […] أقوله أيضاً عن الألم: عندما تتأمل المحبة في الآلام الفائقة الوصف التي كابدها الله الإنسان يسوع المسيح، تتألم بالمقدار ذاته وتتحول إلى ألم” (المرجع عينه، ص. 190-191). إنه الذوبان والتحول في المحبة وآلام المسيح المصلوب، والتشبه به. لكن اهتداء أنجيلا الذي بدأ بالاعتراف سنة 1285 لم ينضج إلا عند ظهور مغفرة الله لروحها كالهبة المجانية من محبة الآب، منبع المحبة، فهي تقول: “لا يستطيع أحد أن يقدم الحجج لأن الكل قادر على محبة الله، وهو لا يطلب من النفس إلا أن تحبه لأنه يحبها وهو محبتها” (المرجع عينه، ص. 76).
في المسيرة الروحية لأنجيلا، يحصل الانتقال من الاهتداء إلى التجربة السرية، ومن القابل للوصف إلى الفائق الوصف، من خلال المصلوب. “الله الإنسان المتألم” هو الذي يصبح لها “معلم الكمال”. إذاً تميل كل تجربتها الصوفية إلى “تشابه” كامل معه من خلال عمليات تطهر وتحول عميقة وجذرية. فتكرس أنجيلا ذاتها لهذا العمل المذهل بالنفس والجسد، وتعيش الأعمال التكفيرية والمحن منذ البداية وحتى النهاية، وتتمنى الموت مع كل الآلام التي قاساها الله الإنسان المصلوب لتتحول إليه تماماً، وتوصي قائلة: “يا أبناء الله، تحولوا كلياً إلى الله الإنسان المتألم الذي أحبكم كثيراً حتى تكرم بالموت لأجلكم ميتة مخزية وعانى آلاماً فائقة الوصف ومؤلمة ومريرة. أيها الإنسان، لقد فعل هذا كله فقط لأنه يحبك!” (المرجع عينه، ص. 247). هذا التماثل يعني أيضاً عيش ما عاشه يسوع: الفقر، الازدراء، الألم، لأن “الروح تجد الثروات الأبدية من خلال الفقر الزمني؛ وتنال الشرف الأسمى والمجد العظيم من خلال الازدراء والخجل؛ وتملك الخير المطلق، الله الأزلي، برقة وتعزية لامتناهيتين من خلال التكفير بألم” (المرجع عينه، ص. 293)، حسبما تقول.
من الاهتداء إلى الاتحاد السري مع المسيح المصلوب، إلى ما يتعذر وصفه. إنها درب سامية يكمن سرها في الصلاة الدائمة، فتقول: “كلما صليت أكثر، كلما استنرت أكثر؛ وكلما استنرت أكثر، كلما رأيت بشكل أعمق الخير المطلق، الخير الصالح؛ وكلما رأيته بعمق وبشدة، كلما أحببته أكثر؛ وكلما أحببته أكثر، كلما سحرك أكثر؛ وكلما سحرك أكثر، كلما فهمته أكثر وأصبحت قادراً على فهمه. بعدها، ستبلغ كمال النور لأنك ستفهم أنك لا تستطيع أن تفهم” (المرجع عينه، ص. 184).
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، تبدأ حياة الطوباوية أنجيلا بوجود دنيوي مبتعد جداً عن الله. لكن لقاءها لاحقاً مع القديس فرنسيس، وفي نهاية المطاف مع المسيح المصلوب يوقظ الروح بالنظر لوجود الله. فقط مع الله، تصبح الحياة حياة فعلية لأنها تصبح في الألم للخطيئة، محبة وفرحاً. هكذا تحدثنا الطوباوية أنجيلا. اليوم، نحن جميعاً معرضون لخطر العيش كما لو أن الله غير موجود: يبدو أنه بعيد جداً عن الحياة الراهنة. لكن الله عنده أساليب كثيرة لكل إنسان ليكون حاضراً في الروح، ويظهر أنه موجود ويعرفنا ويحبنا. تريد الطوباوية أنجيلا أن تلفت انتباهنا إلى هذه العلامات التي بها يلمس الرب روحنا، وإلى حضور الله لنتعلم الحياة نحو الله ومع الله، في الشركة مع المسيح المصلوب. فلنصل إلى الرب لكي يدفعنا إلى الانتباه إلى علامات وجوده، ويعلمنا أن نعيش فعلياً. شكراً.
نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010