الفاتيكان، الخميس 21 أكتوبر 2010 (ZENIT.org). – إنّ مجرّد اجتماع قادة الكنيسة وكبارها وبعض الخبراء في شؤونها هو أمر بالغ الأهميّة والإيجابيّة وموضوع احترام وثناء وتقدير. فالسّيّد المسيح عينه وعدنا قائلا: "كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم". ماذا إذاً لو اجتمع باسمه وباسم أتباعه المشرقيّين جُلّ القيّمين على قيادة سفينته في مشارق الأرض ومغاربها، ليتناقشوا حول وضع هذه السّفينة وركّابها وصحّة وجهة اتّجاهها والمخاطر التي قد تحدق بها في عرض يمِّ عصرٍ شرّير هائج، تلاطم أمواجه العاتية سفينة خلاصٍ كان قد تركها يسوع لحكمة قيادتنا، فإذ بها مهدّدة بالعواصف والزّوابع من كلّ حدب وصوب.
التأم السّينودس في حاضرة الفاتيكان، وأنظار المسيحيّين المشرقيّين مشدودة إلى بلاد الكثلكة والقرار الكنسيّ، تدغدغ مشاعرهم نسيمات رجاء جديدٍ، بتغيير آت من وراء البحار، ينعش وجودهم المرتجف، ومستقبلهم المجهول، ورسالتهم الشّائكة.
إنّ ما يريده المسيحيّون المشرقيّون من هذا السّينودس يمكن اختزاله في ثلاثة مطالب: دعم روحيّ، دعم سياسيّ ودعم مادّيّ.
فالمطلب الرّوحيّ-الرّعويّ هو ما يتباحثه آباء المجمع عن كثب، وهو أمر أساسيّ وبديهيّ بالنّسبة إلى جماعة المؤمنين بالمسيح. وعليه، ينتظر المسيحيّون رجاءً جديدا، وتغييرا أكيدا، ويدا أمينة منقذة، تنتشلهم من كبوة هواجسهم ومخاوفهم في شرقٍ يخشى فيه عقلُهم الباطنيّ من مستقبل رماديّ ومصير يكتنفه الغموض.
لكنّ ما ينقص المسيحيّين في الواقع وبصورة ملحّة هو الأمر الثّاني، أعني به الدّعم السّياسيّ الجدّيّ، الصّارخ والمستمرّ، في المحافل الدّوليّة، وعبر الأقنية الدّبلوماسيّة، والمنابر الإعلاميّة، ولدى رؤوساء دول القرار الذين يزورون بين الفينة والأخرى مركز القرار الكنسيّ الفاتيكانيّ، كيما يغدو الوجود المسيحيّ في المشرق قضيّة دوليّة ذات أولويّة قصوى، يتمّ عبرها "الضّغط الدّبلوماسيّ" المستمرّ على حكومات الشّرق المعنيّة، على اختلاف إيديولوجيّاتها ومعتقداتها، في البلدان التي يتمّ فيها اضطهاد المسيحيّين اضطهادا صامتا أو صارخا، مدروسا أو غوغائيّا، عنصريّا أو مذهبيّا... بدءاً من فلسطين حيث يذوقون الأمرّين من عنصريّة عمياء، ونازيّة جديدة بعيدة كلّ البعد عن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ مرورا في بلاد الرّافدين، حيث تُفجّر كنائسهم وتداس كراماتهم، ويُخطَف أساقفتهم ويُذبح كهنتهم وأبناؤهم وإخوتهم، وتشرّد أُسَرُهم من أرضٍ ترسّخوا فيها منذ ما يقارب العشرين قرنا؛ ناهيك عمّا يعانونه من اضطهاد متعدّد الأشكال في أماكن أخرى، فتُخطف فتياتهم في أرض الكنانة، وتصمت أجراسهم في جزيرة العرب، وتختبئ صلبانهم في بلاد الحرمين، ويُضيّق عليهم في بلاد فارس.
إنّ هذه الحقيقة هي واقع ملموس لم يعد مسموحا التّغاضي عنه أو الهروب منه، لأنّ الحوار الحقّ بين الأديان، عدا عن كونه ضرورة واجبة، ينبغي له -كي يكون صادقا وفعّالا- أن ينطلق من الواقع الحقيقيّ للأحداث، بغية التّغيير والتّحسين، من دون تعمية، أو تجاهل، أو تغاض، أو مساومة، لأنّ بعض المهووسين بمرض الأصوليّة الجاهلة -وهنا لا أعمّم- لا يفهمون لغة الحوار. فهم مصرّون على تشويه صورة دينهم في العالم، فقط لأنّهم هم يفهمونه هكذا. أمّا نحن، فإنّنا نميّز ما بين الدّين المختلف والأصوليّة العمياء، ولا نخلط بينهما البتّة. وعليه، فإنّ مشكلة المسيحيّين المشرقيّين ليست مع المعتدلين العقلاء، بل مع "المهووسين" الجهلة.
أمّا الثّالث الضّروري والمطلوب بإلحاح، فهو الإغاثة المادّيّة أو الماليّة. إنّ المال في مفهومنا وسيلة عيش لا غاية حياة. وهذه المسألة في الأصل، هي من اختصاص الدّولة بدرجة أولى. ولكن، عند امتناع هذه الأخيرة أو تقصيرها أو عجزها، تتّجه الأنظار بطريقة بديهيّة إلى الكنيسة الأمّ والمعلّمة، لتسّد فراغ الدّولة وعوز المحتاجين، على قدر إمكانيّاتها ومقدّراتها.
بعض دولنا في الواقع، يكتنفها التّقصير جرّاء الفساد والسّياسة الخاطئة؛ ووضع المسيحيّين فيها لا يطمئن؛ فكيف نطلب من هؤلاء المسيحيّين البقاء في ديارهم، والدّول المتواجدين فيها لا تبالي بهم؛ ومن دون أن تمدّ لهم الكنيسة يد المعونة على الصّعيد المادّيّ أيضا؟ ففي بلد مثل لبنان، -مثلا- الذي يعتبر محور الوجود المسيحيّ في الشّرق لا من حيث العدد، بل من حيث الدّور الرّياديّ والتّعايشيّ والحواريّ والرّسالة والمشاركة في الحكم ومعاطاة الشّأن العام، إنّ ما يدفع مسيحيّيه للهجرة يوما بعد يوم، ليس الاضطّهاد الدّينيّ، إذ ما من اضطهاد دينيّ في لبنان، كما وليست هشاشة الوضع الأمنيّ، فاللبنانيّون جميعهم ألِفوا مثل هذا الوضع منذ زمن طويل، إنّما هو ثقل الأزمة المادّيّة وغلاء المعيشة وقلّة فرص العمل، وجنون الأقساط الجامعيّة والمتوجّبات الاستشفائيّة والانقسامات السّياسيّة المسيحيّة الحادّة والقلق على المصير... فكلّ هذه العوامل هي بمثابة الحافز الأكبر بالنّسبة إلى الهجرة المسيحيّة.
مع ذلك، لا يطلب المسيحيّون اليوم من كنيستهم أن تجترح لهم المعجزات لحلّ هذه المعضلة، ولا أن تحوّل ماء الواقع المرير إلى خمر حالة مثاليّة طوباويّة؛ بل هم يطلبون بكلّ بساطة، إمكانيّة تعليم أولادهم في مدارس الكنيسة الكاثوليّكيّة وجامعاتها –وهذا حقّ وواجب- بأقساط لا تجعل من هذه المؤسّسات حكرا على الأغنياء وحدهم. كما يطلبون أ لاّ يُرمى بعد اليوم مرضاهم على أبواب المستشفيات ذات الطّابع المسيحيّ، لأنّهم لا يملكون ما يكفي من المال. كما يريدون ألاّ يجبروا على دفع أكثر من نصف رواتبهم للكنيسة لعقد زواجاتهم أمام مذبحها، أوتعميد أطفالهم في أجران عمادها، أو تجنيز أعزّائهم في حنايها المقدّسة.
فكنيستنا هي كنيسة الفقراء أوّلا، ومؤّسّساتنا التّربويّة هي للفقراء أوّلا، والمستشفيات التّابعة للمنظّمات الرّهبانيّة هي للفقراء أوّلا.
إن لم تعد كنيستنا كنيسة الفقراء، فسوف تفتقر إلى الرّسالة السّامية التي ألقيت على عاتق بكركي والرّبوة والشّرفة وبزمّار.
إن لم تعد كنيستنا كنيسة الفقراء، فسوف يحزن يسوع وتدمع العذراء ويكتئب مارون وينضح شربل زيتا ودما.
إن لم تعد كنيستنا كنيسة الفقراء، فسوف يهزل الوجود المسيحيّ في لبنان والشّرق حتّى حدود الزّوال.
إن لم تعد كنيستنا كنيسة الفقراء، فسوف يكون السّينودس كلاما جميلا، ولقاءات رائعة، ثمّ تقبع توصياته تحت غبار المكتبات.
وعليه، لا يمكن أن ننقذ الوجود المسيحيّ اليوم، من دون العودة إلى الينبوع الأساسيّ وهو المسيح، والرّشف من محبّته ورجائه ومبادئه وتعاليمه وقيمه.
ولا يمكن أن نحمي الوجود المسيحيّ من خلال شرذمة سياسيّة حاقدة يتلطّى أبطالها خلف ديموقراطيّة ناقصة، وأحقاد الماضي الدّفينة، ومصالح شخصيّة ضيّقة.
بل لا يمكن أن نعزّز الوجود المسيحيّ، إن لم يتصالح المسيحيّون فيما بينهم أوّلا، ويغفروا بعضهم لبعض أخطاء الماضي الأليم.
كما لا يمكن أن نحافظ على الوجود المسيحيّ عبر نسف دور الكنيسة في الشّأن العام، بحجّة إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
لا يمكن أن نزود عن الوجود المسيحيّ ونحن لا نقوم بمشاريع جدّ ضروريّة لشبابنا وأبنائنا تثّبتهم في أرضهم، كبناء مشاريع سكنيّة جديدة لا تبغي الرّبح، وتشييد مستشفيات أو مستوصفات أو مراكز طبّيّة شبه مجّانية في مناطق المسيحيّين النّائية، أو إن لم يمتلكنا همّ توظيف أبنائنا، والتّفكير بمستقبلهم، وتدبير أمورهم كما تفعل بعض الطّوائف اللبنانيّة الأخرى، بعيدا عن الأنانيّة والوصوليّة والانتهازيّة والنّفعيّة والرّفعة على أكتاف الفقراء والمساكين...
فالوجود المسيحيّ من حيث بُعديه الاجتماعيّ والمادّيّ، ليس فقط للسّياسة والسّياسيّين بل هو للكنيسة والكنسيّين.
ربّما انتظر المسيحيّون من هذا السيّنودس في السّياق عينه، أن يجمع تحت كنفه -على سبيل المثال لا الحصر- كبار المتموّلين المسيحيّين المشرقيّين في العالم، -ويا ليت تمّت دعوتهم إلى السّينودس- كي يساعدوا المسيحيّين ماليّا واقتصاديّا عبر طرق مدروسة ومنّظمة وواثقة وموثوقة، ليتمكّن المسيحيّون من العيش في ديارهم بكرامة، ومتابعة رسالتهم الحضاريّة. فمن المعروف في هذا الصدّد، أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة، بإيعاز من الكرسيّ الرّسوليّ، تساعد مادّيا مسيحيّي الأرض المقدّسة عبر جمع التّبرّعات لهم سنويّا من قِبل جُلّ الأبرشيّات الكاثوليكيّة في العالم وعبر السّفارات البابويّة؛ فلِمَ لا يقرّر هذا السّينودس الأمر نفسه أو شيئا من هذا القبيل لمسيحيّي الشّرق الأوسط عموما؟
فمهما يكن من أمر، إنّ سراج رجاء المسيحيّين لن ينطفئ، وإيمانهم بالرّوح القدس قائد الكنيسة الأكبر لن يتزعزع، وثقتهم بقادتهم الرّوحيّين سوف تبقى كبيرة، لكنّهم يترقّبونهم اليوم، كما ينتظر الأبناء آباءهم عند المساء، محمَّلين بغمار النّعمة والتّجديد والمساعدة. فحينئذ يمكن لهذا السّينودس الجديد أن يكون عنصرة جديدة لكنائس المشرق القديمة. وإلاّ تمّ فيه كلام زهير بن أبي سُلمى: "ما أرانا نقول إلاّ مُعاراً أو مُعاداً من لفظنا مكرورا".